فَأَجَازَهُ قَوْمٌ مِنْهُمْ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَنَقَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالرَّدِّ عَلَى الْمُتَعَصِّبِ الْعَنِيدِ الْمَانِعِ مِنْ ذَمِّ يَزِيدَ سَأَلَنِي سَائِلٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَقُلْت لَهُ يَكْفِيهِ مَا بِهِ فَقَالَ أَيَجُوزُ لَعْنُهُ فَقُلْت قَدْ أَجَازَهُ الْعُلَمَاءُ الْوَرِعُونَ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي حَقِّ يَزِيدَ مَا يَزِيدُ عَلَى اللَّعْنَةِ ثُمَّ رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ أَبِي يَعْلَى أَنَّهُ رَوَى فِي كُتُبِهِ الْمُعْتَمَدَةِ الْأُصُولُ بِإِسْنَادِهِ إلَى صَالِحِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ قُلْت لِأَبِي إنَّ قَوْمًا يَنْسُبُونَنَا إلَى تَوَلِّي يَزِيدَ قَالَ يَا بُنَيَّ وَهَلْ يَتَوَلَّى يَزِيدَ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَلِمَ لَا يُلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَقُلْت فَأَيْنَ لَعْنُ اللَّهِ يَزِيدَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: ٢٢] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: ٢٣] وَهَلْ يَكُونُ فَسَادٌ أَعْظَمُ مِنْ الْقَتْلِ وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ يَا بُنَيَّ مَا أَقُولُ فِي رَجُلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَذَكَرَهُ؟
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَصَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى كِتَابًا ذَكَرَ فِيهِ مَنْ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَةَ وَذَكَرَ مِنْهُمْ يَزِيدَ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ «مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ ظُلْمًا أَخَافَهُ اللَّهُ وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» وَلَا خِلَافَ أَنَّ يَزِيدَ غَزَا الْمَدِينَةَ بِجَيْشٍ وَأَخَافَ أَهْلَهَا اهـ وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَوَقَعَ مِنْ ذَلِكَ الْجَيْشِ مِنْ الْقَتْلِ وَالْفَسَادِ الْعَظِيمِ وَالسَّبْيِ وَإِبَاحَةِ الْمَدِينَةِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ حَتَّى فُضَّ نَحْوُ ثَلَثِمِائَةِ بِكْرٍ وَقُتِلَ مِنْ الصَّحَابَةِ نَحْوٌ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ نَحْوُ سَبْعِمِائَةِ نَفْسٍ وَأُبِيحَتْ الْمَدِينَةُ أَيَّامًا وَبَطَلَتْ الْجَمَاعَةُ مِنْ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ أَيَّامًا وَأُخِيفَتْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَلَمْ يُمَكِّنْ أَحَدًا دُخُولَ مَسْجِدِهَا حَتَّى دَخَلَتْهُ الْكِلَابُ وَالذِّئَابُ وَبَالَتْ عَلَى مِنْبَرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَرْضَ أَمِيرُ ذَلِكَ الْجَيْشِ إلَّا بِأَنْ يُبَايِعُوهُ لِيَزِيدَ عَلَى أَنَّهُمْ خَوَلٌ لَهُ إنْ شَاءَ بَاعَ وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ فَذَكَرَ لَهُ بَعْضُهُمْ الْبَيْعَةَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَرَبَ عُنُقَهُ وَذَلِكَ فِي وَقْعَةِ الْحَرَّةِ ثُمَّ سَارَ جَيْشُهُ هَذَا إلَى قِتَالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَرَمَوْا الْكَعْبَةَ بِالْمَنْجَنِيقِ وَأَحْرَقُوهَا بِالنَّارِ فَأَيُّ شَيْءٍ أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ الْقَبَائِحِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي زَمَنِهِ نَاشِئَةً عَنْهُ وَهِيَ مِصْدَاقُ الْحَدِيثِ السَّابِقِ «لَا يَزَالُ أَمْرُ أُمَّتِي قَائِمًا بِالْقِسْطِ حَتَّى يَثْلِمَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ يُقَالُ يَزِيدُ» وَقَالَ آخَرُونَ لَا يَجُوزُ لَعْنُهُ إذْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا مَا يَقْتَضِيهِ وَبِهِ أَفْتَى الْغَزَالِيُّ وَأَطَالَ فِي الِانْتِصَارِ لَهُ وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِقَوَاعِدِ أَئِمَّتِنَا وَبِمَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَعْنُ شَخْصٍ بِخُصُوصِهِ إلَّا إنْ عُلِمَ مَوْتُهُ عَلَى الْكُفْرِ كَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي لَهَبٍ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَعْنُهُ حَتَّى أَنَّ الْكَافِرَ الْحَيَّ الْمُعَيَّنَ لَا يَجُوزُ لَعْنُهُ لِأَنَّ اللَّعْنَ هُوَ الطَّرْدُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْيَأْسِ عَنْهَا وَذَلِكَ إنَّمَا يَلِيقُ بِمَنْ عُلِمَ مَوْتُهُ عَلَى الْكُفْرِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ ذَلِكَ فَلَا وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فِي الْحَالَةِ الظَّاهِرَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُؤْمِنَ كَمَا لَا يَجُوزُ لَعْنُ فَاسِقٍ مُعَيَّنٍ.
وَإِذَا عَلِمْت هَذَا عَلِمْت بِأَنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَعْنُ يَزِيدَ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا خَبِيثًا وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ وَسُرَّ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عَنْ اسْتِحْلَالٍ أَوْ كَانَ عَنْهُ لَكِنْ بِتَأْوِيلٍ وَلَوْ بَاطِلًا فِسْقٌ لَا كُفْرٌ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِقَتْلِهِ وَسُرُورَهُ بِهِ لَمْ يَثْبُتْ صُدُورُهُ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ بَلْ حُكِيَ عَنْهُ ضِدُّهُ كَمَا قَدَّمْته وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ لَعْنِهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [محمد: ٢٣] وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» فَلَا دَلَالَةَ فِيهِمَا لِجَوَازِ لَعْنِ يَزِيدَ بِخُصُوصِ اسْمِهِ وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِيهِ وَإِنَّمَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ جَوَازُ لَعْنِهِ لَا بِذَلِكَ الْخُصُوصِ وَهَذَا جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ وَمِنْ ثَمَّ حَكَوْا الِاتِّفَاقَ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute