للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الِاجْتِهَادَ الْمُطْلَقَ إنَّمَا مُرَادُهُ الْمُطْلَقُ الْمَذْهَبِيُّ الَّذِي لَا يَخْرُجُ عَنْ قَوَاعِدِ إمَامِهِ كَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَصْبُغَ مَعَ مَالِكٍ وَمُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَالْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ مَعَ الشَّافِعِيِّ إذْ لَيْسَ فِي قُوَّةِ أَحَدٍ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنْ يَبْتَكِرَ الْأَحْكَامَ وَيَسْتَخْرِجَهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا نَعْلَمُ أَبَدًا وَمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ قُلْنَا لَهُ اسْتَخْرِجْ لَنَا شَيْئًا لَمْ يَسْبِقْ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ اسْتِخْرَاجُهُ فَإِنَّهُ يَعْجِزُ انْتَهَى.

وَكَانَ ابْنُ حَزْمٍ يَقُولُ جَمِيعُ مَا اسْتَنْبَطَهُ الْمُجْتَهِدُونَ مَعْدُودٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ خَفِيَ دَلِيلُهُ عَنْ الْعَوَامّ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَدْ نَسَبَ الْأَئِمَّةَ إلَى الْخَطَأِ وَأَنَّهُمْ يُشَرِّعُونَ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَذَلِكَ ضَلَالٌ مِنْ قَائِلِهِ عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُمْ لَوْلَا رَأَوْا فِي ذَلِكَ دَلِيلًا مَا شَرَعُوهُ انْتَهَى. وَكَانَ سَيِّدِي عَلِيٌّ الْخَوَّاصُ يَقُولُ مَا ثَمَّ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ إلَّا وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ لِمَنْ تَأَمَّلَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ أَثَرٍ أَوْ قِيَاسٍ صَحِيحٍ عَلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ لَكِنْ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ صَرِيحِ الْآيَاتِ أَوْ الْأَخْبَارِ أَوْ الْآثَارِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمَنْطُوقِ أَوْ مِنْ الْمَفْهُومِ فَمِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا هُوَ قَرِيبٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ أَقْرَبُ وَمِنْهَا مَا هُوَ بَعِيدٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ أَبْعَدُ وَمَرْجِعُهَا كُلُّهَا إلَى الشَّرِيعَةِ لِأَنَّهَا مُقْتَبَسَةٌ مِنْ شُعَاعِ نُورِهَا وَمَا ثَمَّ لَنَا فَرْعٌ يَتَفَرَّعُ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ أَبَدًا، وَإِنَّمَا الْعَالِمُ كُلَّمَا بَعُدَ عَنْ عَيْنِ الشَّرِيعَةِ ضَعُفَ نُورُ أَقْوَالِهِ بِالنَّظَرِ إلَى نُورِ أَوَّلِ مُقْتَبِسٍ مِنْ عَيْنِ الشَّرِيعَةِ الْأُولَى مِمَّنْ قَرُبَ مِنْهَا وَكَانَ سَيِّدِي عَلِيٌّ الْخَوَّاصُ إذَا سَأَلَهُ إنْسَانٌ عَنْ التَّقَيُّدِ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ الْآنَ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا يَقُولُ يَجِبُ عَلَيْك التَّقَيُّدُ بِمَذْهَبٍ مَا دُمْتَ لَا تَصِلُ إلَى شُهُودِ عَيْنِ الشَّرِيعَةِ الْأُولَى فَهُنَاكَ لَا يَجِبُ عَلَيْك التَّقَيُّدُ بِمَذْهَبٍ لِأَنَّك تَرَى اتِّصَالَ جَمِيعِ مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ بِهَا وَلَيْسَ مَذْهَبٌ أَوْلَى بِهَا مِنْ مَذْهَبٍ وَيَرْجِعُ الْأَمْرُ عِنْدَك حِينَئِذٍ إلَى مَرْتَبَتَيْ التَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ بِشَرْطِهِمَا انْتَهَى.

وَسَمِعْت شَيْخَنَا شَيْخَ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ مِرَارًا عَيْنُ الشَّرِيعَةِ كَالْبَحْرِ فَمِنْ أَيِّ الْجَوَانِبِ اُغْتُرِفَ مِنْهُ فَهُوَ وَاحِدٌ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ إيَّاكُمْ أَنْ تُبَادِرُوا إلَى الْإِنْكَارِ عَلَى قَوْلِ مُجْتَهِدٍ أَوْ تَخْطِئَتِهِ إلَّا بَعْدَ إحَاطَتِكُمْ بِأَمْثِلَةِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا وَمَعْرِفَتِكُمْ بِجَمِيعِ لُغَاتِ الْعَرَبِ الَّتِي احْتَوَتْ عَلَيْهَا الشَّرِيعَةُ وَمَعْرِفَتِكُمْ بِمَعَانِيهَا وَطُرُقِهَا فَإِذَا أَحَطْتُمْ بِهَا كَمَا ذَكَرْنَا وَلَمْ تَجِدُوا ذَلِكَ الْأَمْرَ الَّذِي أَنْكَرْتُمُوهُ فِيهَا فَحِينَئِذٍ لَكُمْ الْإِنْكَارُ، وَأَنَّى لَكُمْ بِذَلِكَ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا «إنَّ شَرِيعَتِي جَاءَتْ عَلَى ثَلَثِمِائَةِ طَرِيقَةٍ مَا سَلَكَ أَحَدٌ طَرِيقَةً مِنْهَا إلَّا نَجَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» .

فَإِنْ قِيلَ فَمَا دَلِيلُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي زِيَادَاتِهِمْ الْأَحْكَامَ الَّتِي اسْتَنْبَطُوهَا عَلَى صَرِيحِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهَلَّا كَانُوا وَقَفُوا عَلَى حَدِّ مَا رَأَوْهُ صَرِيحًا فَقَطْ وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا؛ لِحَدِيثِ «مَا تَرَكْت شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ إلَى اللَّهِ إلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَلَا شَيْئًا يُبْعِدُكُمْ عَنْ اللَّهِ إلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>