للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكلُّ هؤلاء تجدُ نفسَه مضطربةً في هذا الاعتقاد؛ لتناقضه في نفسه, وإنما يُسَكِّنُ بعضَ اضطرابه نوعُ تقليدٍ لمعظَّم عنده، أو خوفُه من مخالفة أصحابه، أو زعمُه أن هذا مِن حُكم الوهم والخيال دون العقل.

وهذا التناقض في إثبات هذا الموجودِ الذي ليس بخارجٍ عن العالم ولا هو العالم, الذي تردُّه فِطَرهم وشُهودهم وعقولهم, غيرُ ما في الفطرة من الإقرار بصانعٍ فوق العالم، فإن هذا إقرارُ الفطرة بالحقِّ المعروف، وذاك إنكارُ الفطرة للباطل (١) المنكر.

ومن هذا الباب ما ذكره محمد بن طاهر المقدسي في حكايته المعروفة أن الشيخ أبا جعفر الهمَذاني حضر مرَّةً والأستاذ أبو المعالي يذكُر على المنبر: «كان اللهُ ولا عَرْش» , ونفى الاستواء، على ما عُرِفَ من قوله, وإن كان في آخر عمره رجَعَ عن هذه العقيدة ومات على دين أمِّه وعجائز نيسابور.

قال: فقال الشيخ أبو جعفر: يا أستاذ، دعنا مِن ذِكْر العرش ــ يعني لأن ذلك إنما جاء في السَّمع ــ, أخبِرْنا عن هذه الضرورة التي نجدُها في قلوبنا, ما قال عارفٌ قطُّ: «يا الله» إلا وجدَ من قلبه معنًى يطلبُ العلوَّ لا يلتفتُ يمنةً ولا يَسْرَة، فكيف ندفعُ هذه الضرورة عن قلوبنا؟ ! فصَرخَ أبو المعالي, ووضع يده على رأسه، وقال: حيَّرني الهمذاني ــ أو كما قال ــ , ونَزَل (٢).

فهذا الشيخُ تكلَّم بلسان جميع بني آدم، فأخبرَ أن العرشَ والعلمَ


(١). الأصل: «بالباطل». من سهو الناسخ.
(٢). تقدم الكلام على الحكاية (ص: ٦٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>