وإخماد قولهم، لا لأن نفورَ النافرين عندهم يدلُّ على حقٍّ أو باطل، ولا لأن قولهم مكابرةٌ للعقل أو معلومٌ بضرورة العقل أو ببديهته فسادُه, هذا لم أعلم أحدًا من أئمة النُّفاة أهلِ النظر يدَّعيه في شيءٍ من أقوال المُثْبِتة وإن كان فيها من الغلوِّ ما فيها.
ومن المعلوم أن مجرَّد نفور النافرين أو محبَّة الموافقين لا يدلُّ على صحَّة قولٍ ولا فساده إلا إذا كان ذلك بهدًى من الله، بل الاستدلالُ بذلك هو استدلالٌ باتباع الهوى بغير هدًى من الله؛ فإن اتباع الإنسان لما يهواه هو أخذُ القول والفعل الذي يحبُّه وردُّ القول والفعل الذي يبغضه بلا هدًى من الله, قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيَضِلُّونَ (١) ... بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: ١١٩]، وقال:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ}[القصص: ٥٠] وقال تعالى لداود: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[ص: ٢٦] وقال تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام: ١٥٠]، وقال تعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة: ٧٧].
(١). كذا قرأ أبو عمرو, وهي قراءة المصنف وأهل الشام لعهده, وبها يستقيم استدلاله هنا وفي عامة المواضع التي يستشهد فيها بالآية. وقرأ الكوفيُّون بضم الياء, أي يُضِلُّون غيرَهم من الناس. انظر: «السبعة» لابن مجاهد (٢٦٧) , و «معاني القراءات» لأبي منصور الأزهري (١/ ٣٨٣) , و «حجة القراءات» لابن زنجلة (٢٧٠).