للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبعضهم لم يستند في منعه إلى العصمة، وإنما لم يحمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على الكراهة لأن الظاهر وقوفه - صلى الله عليه وسلم - عند النهي لا يتجاوزه. قال القرافي: "إن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا يقع فيه محرّم لعصمته، ولا مكروه لظاهر حاله". ومعنى هذا وجود احتمال ضئيل بكون فعله - صلى الله عليه وسلم - مكروهاً، ولكن لا أثر لذلك الاحتمال في منع استفادة الأحكام من الأفعال. ولعلّ هذا مراد ابن السبكي في قوله في جمع الجوامع: (وفعله - صلى الله عليه وسلم - غير محرَّم للعصمة، وغير مكروه للندرة) (١).

[الوجه الثاني]

أن يفعل المكروه عَمْداً ليبيّن الجواز. وذلك أن المكروه جائز، لعدم الإثم واللوم في فعله، وإن كان تركه أولى لأن في تركه أجراً. فإذا أُريد بيان ذلك، أي بيان أن الفعل غير محرم، فقد يبيّنه - صلى الله عليه وسلم - بأن يفعله، فإذا فعلهُ علم أنه غير محرم. والفعل حيئنذ في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - واجب من جهة البيان كما تقدم. فلا يقال إنه وقع في الكراهة، بل هذا في حقه من باب تعارض المصلحة والمفسدة، فإن في فعله مصلحة البيان، ومفسدة مخالفة النهي، ومصلحة البيان أرجح.

وقد تكون المصلحة غير البيان، فيفعل المكروه لأجلها، كالتهاجر ثلاثاً، فإنه في الأصل مكروه، ويجوز لمصلحة التأديب.

وقد نقل ابن تيمية (٢) عن القاضي (أبي يعلى الحنبلي)، المنع من فعله - صلى الله عليه وسلم - المكروه لبيان الجواز، محتجّاً بأن فعله - صلى الله عليه وسلم - يفهم منه انتفاء الكراهية، فيختلّ البيان. وربما استُدلَّ لهذا القول بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما بال قوم يتنزّهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي" (٣). والمكروه إنما يترك تنزهاً. وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - التنزه عن مثل فعله، فدل على أنه لا يكون مكروهاً.

والصواب جواز هذا النوع، لأنه يحصل به البيان المطلوب، ويمكن التنبيه على كراهته بالقول، إذا لم تعلم بالقرائن.


(١) جمع الجوامع مع شرح المحلى ٢/ ٩٦
(٢) المسودة في أصول الفقه ص ٧٤
(٣) البخاري ومسلم وأحمد (الفتح الكبير).

<<  <  ج: ص:  >  >>