والجواب أن مثل هذه الحادثة خالفَ فيها الفعلُ القولَ المتقدم المستقرّ المعلوم، فلا يكفي الفعل لنسخه لو كان المراد النسخ، فلو لم ينبئهم به لقُدم القول.
وحينئذ فإذا أريد نسخه لا بد من أن يكون ذلك بقول. وخاصة على قول من يقول: الفعل لا ينسخ القول مطلقاً، أو لا ينسخه ما لم يتكرر.
وأيضاً ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنه ينسى كما ينسون، يجعل تركه لما ترك مجملاً، لأنه يدور بين النسيان وبين التشريع، ومن أجل ذلك لا يصلح الفعل بياناً في مثل هذا المقام، ويتعين القول.
...
هذه أدلتهم التي أوردوها، وقد زيّفناها وبيّنا أنها لا تدل على مطلوبهم. ولقد صرّح أبو شامة بأن "الاقتداء بالواجب من فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يكون واجباً، وأنه لا يعلم شيئاً من الأحكام الواجبة مستندُ وجوبه الفعل". وهذه مجازفة غير مقبولة، كان ينبغي له أن يحترز من إطلاقها، لعل الذي حمله على ذلك اقتفاء خطوات ابن حزم رحمة الله عليهما. وإلاَّ فأيّ دليل قوليّ يدل على وجوب خطبة الجمعة، وركنيّة ركعتين في صلاة العيد، ووجوب السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة، والبدء بالصفا، ووجوب ركوعات صلاة الكسوف، وسجود السهو، وغير ذلك.
[دليل بطلان قول الندب]
التأسّي المطلوب شرعاً يقتضي المساواة في صورة الفعل، وفي حكم الفعل. وبدون ذلك لا يكون الفعل الذي نفعله تأسياً. فمن لم يفعل ما يماثل الفعل النبويّ في الصورة فليس متأسيّاً، بل يكون مخالفاً (١). وكذلك مَن فعَل ندباً ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - واجباً، فذلك ليس تأسيّاً، بل هو نوع من المخالفة، أو هو أقرب إلى الابتداع.