للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما الكفّ عن الشيء والإمساك عنه، فهو أمر تكليفي مقصود، قد يظهر فيه قصد القربة، فيدلّ على كراهة الشيء، دون تحريمه. وقد لا يظهر فيه قصد القربة، فيحمل على أنه من ترك المباح. ويدل على الإباحة.

ولذلك كان الصواب التسوية بين الفعل والترك في جميع المراتب. فكما أن من الأفعال أفعالاً جبليّة اضطرارية لا أسوة فيها، فكذلك التروك العدمية جبلية اضطرارية، ولا أسوة فيها. وكما أن من الأفعال ما هو معلوم الحكم فيتأسى به، فكذلك في التروك. وكما أن مجهول الحكم من الأفعال يحمل على الندب أو الإباحة ويتأسى به على ذلك الأساس، فكذلك الكفّ والإمساك، يحمل مجهول الحكم منه على الكراهة أو الإباحة، والله أعلم.

[تكرار الترك]

إنه كما تقدم في الفعل أن تكراره والمواظبة عليه يقرِّب أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله على جهة التعبّد والقربة، فكذلك التروك، ترقى بها المواظبة حتى تقربها من باب ما ترك تعبّداً.

ونضرب مثالاً على ذلك ما ورد في الصحيحين عن ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسبّح على ظهر راحلته، حيث كان وجهه، يومئ برأسه". وفي رواية البخاري: "إلا الفرائض" ولمسلم: "غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة".

فإنه تركه لصلاة الفريضة على الراحلة، لو كان تركه مرة أو مرتين، لا يدل على المنع منها. يقول ابن دقيق العيد: "قد يتمسّك بما في الحديث في أن صلاة الفرض لا تؤدى على الراحلة. وليس ذلك بقويٍّ في الاستدلال لأنه ليس فيه إلا ترك الفعل المخصوص. وليس الترك بدليل على الامتناع" (١).

ثم قال: "وقد يقال إن دخول وقت الفريضة مما يكثر على المسافرين. فترك الصلاة لها دائماً، مع فعل النوافل على الراحلة، يشعر بالفرقان بينهما في الجواز وعدمه".

وهذا الذي قاله أخيراً هو الذي نريده. وهو المعتمد عند الفقهاء في هذا الفرع.


(١) الإحكام ١/ ١٨٢

<<  <  ج: ص:  >  >>