للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنما أخذوا ذلك من أدلة أخرى غير تلك الواقعة. وحملوا ردّه - صلى الله عليه وسلم - لماعزٍ في المرة الأولى والثانية والثالثة على محامل مختلفة، ككونه لزيادة التثبّت. فلم يجعلوا تركه للحكم في تلك الواقعة مانعاً من الحكم في نظائرها من الوقائع (١).

وقال الحنفية والحنابلة: إن ردّه - صلى الله عليه وسلم - لماعز قبل الرابعة دليل أن الرابعة هي الموجبة، ولا حكم في ما قبلها. إذ لو كان فيها حكم لما جاز تركه.

أما إن حملنا كلام ابن عقيل في التناظر بين الواقعتين على ما يشمل التساوي في المانع من الحكم، بالإضافة إلى التساوي في أصل الحادثة، فإن كلامه يكون صواباً. وتطبيق هذا على المسائل الفرعية الثلاث التي ذكرناها واضح. وقد أمر مالك الخليفة المنصور بترك نقض الكعبة لئلا يتخذه الملوك لعبة. وذلك مانع مشابه للمانع الذي لأجله تركها النبي - صلى الله عليه وسلم - على حالها. والله أعلم.

والحاصل أن الوقائع التي يمكن أن يترك - صلى الله عليه وسلم - الحكم فيها أحياناً نوعان:

١ - ما سبق النص عليه، أو يمكن تبين حكمه بقياس جليّ.

٢ - ما منع من الحكم فيه مانع يتضمن مفسدة أعظم من ترك بيان الحكم فيه. فإن لم يكن كذلك فإن ترك الحكم فيه ممتنع. ويمتنع علينا الحكم فيه.

وهذا كما هو بيّن، قيد في قياس العلة، فلا يجوز أن يكون فرع القياس مما كان حادثاً في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وترك ذلك الحكم فيه. والله أعلم.

[المطلب الرابع ترك الاستفصال عند الإفتاء ومدى دلالته على عموم الحكم]

عبّر الشافعي عن هذه المسألة بقوله: "ترك الاستفصال، في مقام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال" (٢). وهو أول من ذكر هذه القاعدة في ما نعلم.


(١) انظر: نيل الأوطار ٧/ ١٠٣ المغني لابن قدامة ٨/ ١٩٢
(٢) القرافي: الفروق ٢/ ٨٧ - ٩٠، ابن اللحام الحنبلي: القواعد ص ٢٣٤

<<  <  ج: ص:  >  >>