وإيضاحها أن يقال: إذا سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حكم واقعة من الوقائع، وكانت الواقعة المسؤول عنها مما يحتمل أن تقع على صورتين فأكثر، فأجاب عنها دون استفصال عن الصورة الواقعة، فإن الحكم المذكور في الجواب النبويّ، يكون صادقاً على كلتا الصورتين. ولو أراد أن يكون حكمه صادقاً على إحداهما دون الأخرى وجب عليه إما أن يستفصل، ويحكم على المتحصّل بالاستفصال، وإما أن يقيد في كلامه فيقول: إن كان كذا فالحكم كذا.
وهذه قاعدة في الإفتاء معروفة، ومثالها أن يقول المستفتي في الميراث: رجل ترك زوجة وأماً وأباً. فينبغي للمفتي أن يسال: هل ترك ولداً أو ولد ابن؟ لأن الحكم يختلف في حال وجوده عن حال عدمه. وكذلك يسأل: هل ترك من الإخوة اثنين فأكثر؟ ولكن لا حاجة إلى أن يسأل: هل ترك عمّاً أو خالاً، إذ أن ذلك لا يؤثر في قسمة التركة.
ولإيضاح قاعدة التنزيل هذه بالمثال، نذكر حديث أم سلمة في المستحاضة:"أن امرأة كانت تهراق الدماءَ. فاستفتت أم سلمة لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر، قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفرْ بثوب، ثم لتصلّ"(١).
احتجّ به الحنفية على أن المستحاضة إن كان لها عادة معلومة فإنها تجلسها، وسواء أكان دمها متميّزاً أم لا، فلا اعتبار بالتمييز. ووجه إلغاء التمييز عندهم البناء على هذه القاعدة التي ذكرنا. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفتاها بما ذكر في الحديث، ولم يستفصل منها، أمميزة هي أم لا، فدلّ ذلك أن الأمرين سواء، وأن المعتبر العادة. فنزلوا تركه - صلى الله عليه وسلم - للاستفصال منزلة العموم في القول، فكأنه قال: لتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، في حال تمييزها إن كانت مميّزة، وفي غير تلك الحال إن لم تكن عليها.
(١) رواه مالك وأبو داود والنسائي. وانظر (جامع الأصول ٨/ ٣٣٥).