فلعلّ الذي خطر ببال الصحابي السائل أن بقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على الجنابة أثناء الصوم يحتمل أن يكون معصية، وقد أقدم عليها اعتماداً على المغفرة السابقة.
وربما كان ما خطر بباله أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يهتمّ بتعرّف الحكم في المسألة، اعتماداً على المغفرة المشار إليها.
وكان جوابه - صلى الله عليه وسلم - مبطلاً لكلا الاحتمالين:
فقوله:"إني أخشاكم لله" ردّ للاحتمال الأول. وهو إشارة إلى أن المغفرة لم تمنع كمال الخشية، لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بجلال ربّه وعظمته.
وقوله:"وأعلمكم بما أتقي"، ردّ للاحتمال الثاني، إذ هو - صلى الله عليه وسلم - أعلم الأمة بمرادات ربه في الوحي المنزّل إليه. وقد أشرنا إلى ردّ هذا الاحتمال في المطلب الثاني المتقدم.
الشبهة الثانية: أنه - صلى الله عليه وسلم - قد يفعل المكروه لبيان الجواز، كما تقدم. فما يؤمّننا أن يكون الفعل الذي نراه مفيداً للإباحة، هو في الأصل مكروه وقد فعله - صلى الله عليه وسلم - لبيان الجواز، فتكون استفادتنا للحكم خطأ.
ويجاب عن هذا بأنه لا بد أن تتبين كراهته إما بنهي عنه في موضع آخر، أو بالقرائن.
الشبهة الثالثة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعامل الناس بما يتألفهم ولا ينفرهم، وقد قال الله تعالى له:{فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}(١).
فما يؤمّننا أن يكون الفعل الذي نريد أن نقتدي به فيه مكروهاً أو محرماً عليه في الأصل، ولكن أبيح له فعله للمصلحة الراجحة من تأليف القلوب، وحسن السياسة، والتوصّل إلى ما هو أهم وأعظم.