عرفة. فهذا ونحوه أفعال صدرت منه - صلى الله عليه وسلم - تحتمل القربة، وإن لم يظهر لنا فاستحبّ علماء المذهب متابعته والتأسيّ به فيها. وهي في هذا الباب بمثابة الأوصاف الشبهيّة في باب القياس، إلا أنها مخطوطة الدرجة عما ظهر فيه قصد القربة. فيكون الاستحباب فيها آكد مما لم يظهر فيه قصد القربة، ويكون الاستحباب فيما وجب عليه - صلى الله عليه وسلم - آكد، لأن مصلحته أتم بدليل تحتمه عليه.
فهذه ثلاث درجات: أعلاها متابعته - صلى الله عليه وسلم - في ما وجب عليه.
وبعدها متابعته في ما نُدِب إليه، أوفيما لم تعلم صفته، لكن ظهر فيه قصد القربة.
والدرجة الثالثة ما احتمل القربة وإن لم تظهر.
وبعد هذه الدرجات درجة رابعة، وهي متابعته - صلى الله عليه وسلم - في الأفعال التي يكاد يقطع فيها بخلّوها من القربة، كهيئة وضع أصابع اليد اليمنى في التشهد، فتستحب المحافظة عليها والأخذ بها ما أمكن، تدريباً للنفس الجموح، وتمريناً لها على أخلاق صاحب الشرع، لتعتاد ذلك، فلا تخلّ بعده بشيء مما فيه قربة. فهذا ونحوه هو الذي يظهر لي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يلاحظه، فأخذ نفسه بالمحافظة على جميع آثاره - صلى الله عليه وسلم - ... فالمتّصف بالإيمان، من علامات صحّة إيمانه ومحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - التبرك بآثاره، والاتّباع فيها. فهي -وإن لم تصدر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قربةً - قربةٌ. فنحن نرجو بفعلها التقّرب إلى الله تعالى، لما انطوى عليه فعلنا لها من محبته - صلى الله عليه وسلم - التي حملتنا عليها، ولما يُحْدِث ذلك من رقة القلب بتذكره - صلى الله عليه وسلم -". اهـ.
ثم نقل أبو شامة عن ابن عَبْدان قوله: "أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - التي لم تحصل منه على وجه القُرَب، يستحبّ التأسّي به فيها، رجاء بركته، مثل أكله وشربه وعطائه ومعاشرته لنسائه، وجميع أفعاله المتعلقة بأمور الدنيا. يستحب التأسّي به في جميع ذلك". اهـ.