للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن هذه الموانع أن يسكت - صلى الله عليه وسلم - في انتظار الوحي، ويعلم ذلك من حاله، فلا يكون سكوته قبل البيان حجة على انتفاء الحرج في الفعل.

وجعل القشيري من هذا النوع (١) أن لا يكون - صلى الله عليه وسلم - مشتغلاً ببيان حكم من الأحكام، مستغرقاً فيه. فلو كان كذلك فرأى إنساناً على أمر ولم يتعرّض له، فلا يكون إقراره حجة، إذ لا يمكنه بيان جميع الأحكام دفعة واحدة.

ونحن نقول: إن ما استدل به من عدم إمكان بيان جميع الأحكام دفعة واحدة حق. ولكن يمكن بيان الحكم بعد انتهائه مما هو بصدده، بل قد قطع - صلى الله عليه وسلم - خطبته يوم الجمعة ليقول لأحد القادمين: "اجلس فقد آذيت وآنيت" (٢).

ولكن لكلام ابن القشيري وجه من جهة أخرى. وهي أنه لو رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - إنساناً من الناس على حال سيئة وقد جمع من الجهل والمعاصي صنوفاً، فهل ينكرها عليه جميعاً أم يعتني بنهيه عن أكبرها ويتجاهل أصغرها فلا ينهى عنه، كما هو مقتضى الحكمة، وكما يشهد له تنزل الأوامر والنواهي الشرعية بالتدريج، حتى إن تحريم الربا والخمر، تأخر إلى أواخر العهد المدني؟ والظاهر أن الطريقة الثانية هي التي كان يسير عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد أقر أهل الطائف على إسلامهم مع ترك الزكاة والجهاد (٣)، فلم يكن ذلك حجة في جواز ترك الزكاة والجهاد.

وخلاصة هذه الشروط ما قال أبو شامة: "حاصل ضبط هذا الباب أن نقول: كلّ فعل أقَرَّ عليه، ولا مانع من الإنكار، أفاد جوازه، إلاّ في ما علم من دينِه إنكاره أبداً، كأديان الكفرة، فإن سكوت لا أثر له" (٤).


(١) البحر المحيط للزركشي ٢/ ٢٥٧ ب.
(٢) المحقق ق ٤١ ب.
(٣) أبو داود ٨/ ٢٦٥ وأحمد ٤/ ٢١٨ ولفظ أبي داود من رواية جابر "اشترطت (ثقيف) على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا صدقة عليها ولا جهاد وإنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك يقول: سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا".
(٤) المحقق ق ٤١ ب.

<<  <  ج: ص:  >  >>