. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
الَّذِي يُحِبّهُ اللَّه وَلَا يُحِبُّ سِوَاهُ وَأَنَّهُ وَحْدَهُ الْبِرّ الَّذِي لَا أَبَرّ مِنْهُ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الصَّوْم فِي السَّفَر لَيْسَ مِنْ هَذَا النَّوْع الَّذِي تَظُنُّونَهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُون الْفِطْر أَحَبُّ إِلَى اللَّه مِنْهُ فَيَكُون هُوَ الْبِرّ
قَالُوا وَأَمَّا كَوْنُ الْفِطْر كَانَ آخِر الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمُرَاد بِهِ وَاقِعَةٌ مُعَيَّنَةٌ وَهِيَ غَزَاة الْفَتْح فَإِنَّهُ صَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيد ثُمَّ أَفْطَرَ فَكَانَ فِطْرُهُ آخِرَ أَمْرَيْهِ لَا أَنَّهُ حَرَّمَ الصَّوْم وَنَظِيرُ هَذَا قَوْل جَابِر كَانَ آخِر الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْك الْوُضُوء مِمَّا مَسَّتْهُ النَّار إِنَّمَا هُوَ فِي وَاقِعَة مُعَيَّنَة دُعِيَ لِطَعَامٍ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَقَامَ إِلَى الصَّلَاة ثُمَّ أَكَلَ مِنْهُ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأ فَكَانَ آخِر الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ تَرْك الْوُضُوء مِمَّا مَسَّتْ النَّار
وَجَابِر هُوَ الَّذِي رَوَى هَذَا وَهَذَا فَاخْتَصَرَهُ بَعْض الرُّوَاة وَاقْتَصَرَ مِنْهُ عَلَى آخِره
وَلَمْ يَذْكُر جَابِر لَفْظًا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ هَذَا آخِر الْأَمْرَيْنِ مِنِّي وكذلك قصة الصيام وإنما حكوا ما شاهدوه أَنَّهُ فَعَلَ هَذَا وَهَذَا وَآخِرهمَا مِنْهُ الْفِطْر وَتَرْك الْوُضُوء وَإِعْطَاء الْأَدِلَّة حَقّهَا يُزِيل الِاشْتِبَاه وَالِاخْتِلَاف عَنْهَا
وَأَمَّا قِصَّة دِحْيَة بْن خَلِيفَة الْكَلْبِيّ فَإِنَّمَا أَنْكَرَ فِيهَا عَلَى مَنْ صَامَ رَغْبَة عَنْ سُنَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَنًّا أَنَّهُ لَا يَسُوغ الْفِطْر وَلَا رَيْب أَنَّ مِثْل هَذَا قَدْ اِرْتَكَبَ مُنْكَرًا وَهُوَ عَاصٍ بِصَوْمِهِ
وَاَلَّذِينَ أَمَرَهُمْ الصَّحَابَة بِالْقَضَاءِ وَأَخْبَرُوا أَنَّ صَوْمهمْ لَا يَجْزِيهِمْ هُمْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ صَامُوا صَوْمًا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّه وَهُوَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ حَتْمٌ عَلَيْهِمْ كَالْمُقِيمِ
وَلَا ريب أن هذا حكم لم يشرعه الله وَهُوَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ حَتْمٌ عَلَيْهِمْ كَالْمُقِيمِ ولا ريب أن هذا حكم لم يشرعه اللَّه فَلَمْ يَمْتَثِلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الصَّوْم فَأَمَرَهُمْ الصَّحَابَة بِالْقَضَاءِ
هَذَا أَحْسَن مَا حُمِلَ عَلَيْهِ قَوْل مَنْ أَفْتَى بِذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَة وَعَلَيْهِ يُحْمَل قَوْل مَنْ قَالَ مِنْهُمْ الصَّائِم فِي السَّفَر كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَر وَهَذَا مِنْ كَمَالِ فِقْهِهِمْ وَدِقَّة نَظَرِهِمْ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ
قَالُوا وَأَمَّا قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّه الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ قَبُول الْمُكَلَّف لِرُخْصَةِ اللَّه وَاجِبٌ وَهَذَا حَقٌّ فَإِنَّهُ مَتَى لَمْ يَقْبَل الرُّخْصَة رَدَّهَا وَلَمْ يَرَهَا رُخْصَة وَهَذَا عُدْوَانٌ مِنْهُ وَمَعْصِيَةٌ وَلَكِنْ إِذَا قَبِلَهَا فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ بِهَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ
هَذَا مَعَ أَنَّ سِيَاق الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْأَمْر بِالرُّخْصَةِ لِمَنْ جَهِدَهُ الصَّوْم وَخَافَ عَلَى نَفْسه وَمِثْل هَذَا يُؤْمَر بِالْفِطْرِ
فَعَنْ جَابِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ يُرَشّ عَلَيْهِ الْمَاء
قَالَ مَا بَال صَاحِبكُمْ هَذَا قَالُوا يَا رَسُول اللَّه صَائِم
قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْبِرّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَر وَعَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّه الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ
قَالُوا وَأَمَّا قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُولَئِكَ الْعُصَاة فَذَاكَ فِي وَاقِعَة مُعَيَّنَة أَرَادَ مِنْهُمْ الْفِطْر فَخَالَفَهُ بَعْضهمْ فَقَالَ هَذَا
فَفِي النَّسَائِيّ عَنْ جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِر قَالَ خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّة عَام الْفَتْح فِي رَمَضَان فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاع الْغَمِيم فَصَامَ النَّاس مَعَهُ فَبَلَغَهُ أَنَّ النَّاس شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَام فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاء بَعْد الْعَصْر فَشَرِبَ وَالنَّاس يَنْظُرُونَ فَأَفْطَرَ بَعْضُ النَّاس وَصَامَ بَعْض