(وأخرجه النسائي وبن ماجه
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
يَعْتَادُونَهَا وَهِيَ الَّتِي فَسَّرَهَا فِي حَدِيثه
وَأَمَّا الْمُزَارَعَة الَّتِي فَعَلَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَخُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْده فَلَمْ يَتَنَاوَلهَا النَّهْي بِحَالٍ
التَّاسِع أَنَّ مَا فِي الْمُزَارَعَة مِنْ الْحَاجَة إِلَيْهَا وَالْمَصْلَحَة وَقِيَام أَمْر النَّاس عَلَيْهَا يَمْنَع مِنْ تَحْرِيمهَا وَالنَّهْي عَنْهَا لِأَنَّ أَصْحَاب الْأَرْض كَثِيرًا مَا يَعْجِزُونَ عَنْ زَرْعهَا وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَالْعُمَّال وَالْأَكَرَة يَحْتَاجُونَ إِلَى الزَّرْع وَلَا أَرْض لَهُمْ وَلَا قِوَام لِهَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ إِلَّا بِالزَّرْعِ فَكَانَ مِنْ حِكْمَة الشَّرْع وَرَحْمَته بِالْأُمَّةِ وَشَفَقَته عَلَيْهَا وَنَظَره لَهُمْ أَنْ جَوَّزَ لِهَذَا أَنْ يَدْفَع أَرْضه لِمَنْ يَعْمَل عَلَيْهَا وَيَشْتَرِكَانِ فِي الزَّرْع هَذَا بِعَمَلِهِ وَهَذَا بِمَنْفَعَةِ أَرْضه وَمَا رَزَقَ اللَّه فَهُوَ بَيْنهمَا وَهَذَا فِي غَايَة الْعَدْل وَالْحِكْمَة وَالرَّحْمَة وَالْمَصْلَحَة
وَمَا كَانَ هَكَذَا فَإِنَّ الشَّارِع لَا يُحَرِّمهُ وَلَا يَنْهَى عَنْهُ لِعُمُومِ مَصْلَحَته وَشِدَّة الْحَاجَة إِلَيْهِ كَمَا فِي الْمُضَارَبَة وَالْمُسَاقَاة بَلْ الْحَاجَة فِي الْمُزَارَعَة آكَد مِنْهَا فِي الْمُضَارَبَة لِشِدَّةِ الْحَاجَة إِلَى الزَّرْع إِذْ هُوَ الْقُوت وَالْأَرْض لَا يُنْتَفَع بِهَا إِلَّا بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الْمَال
فَإِنْ قِيلَ فَالشَّارِع نَهَى عَنْهَا مَعَ هَذِهِ الْمَنْفَعَة الَّتِي فِيهَا وَلِهَذَا قَالَ رَافِع نَهَانَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْر كَانَ لَنَا نَافِعًا فَالْجَوَاب أَنَّ الشَّارِع لَا يَنْهَى عَنْ الْمَنَافِع وَالْمَصَالِح وَإِنَّمَا يَنْهَى عَنْ الْمَفَاسِد وَالْمَضَارّ وَهُمْ ظَنُّوا أَنْ قَدْ كَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَنْهِيّ عَنْهُ مَنْفَعَة وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مَضَرَّة وَمَفْسَدَة مُقْتَضِيَة لِلنَّهْيِ وَمَا تَخَيَّلُوهُ مِنْ الْمَنْفَعَة فَهِيَ مَنْفَعَة جُزْئِيَّة لِرَبِّ الْأَرْض لِاخْتِصَاصِهِ بِخِيَارِ الزَّرْع وَمَا يَسْعَد مِنْهُ بِالْمَاءِ وَمَا عَلَى أَقُبَال الْجَدَاوِل فَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَة لَهُ فَهُوَ مَضَرَّة عَلَى الْمَزَارِع فَهُوَ مِنْ جِنْس مَنْفَعَة الْمُرَابِي بِمَا يَأْخُذهُ مِنْ الزِّيَادَة وَإِنْ كَانَ مَضَرَّة عَلَى الْآخَر
وَالشَّارِع لَا يُبِيح مَنْفَعَة هَذَا بِمَضَرَّةِ أَخِيهِ فَجَوَاب رَافِع أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مَنْفَعَة لَكُمْ فَهُوَ مَضَرَّة عَلَى إِخْوَانكُمْ فَلِهَذَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
وَأَمَّا الْمُزَارَعَة الْعَادِلَة الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا الْعَامِل وَرَبّ الْأَرْض فَهِيَ مَنْفَعَة لَهُمَا وَلَا مَضَرَّة فِيهَا عَلَى أَحَد فَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا فَاَلَّذِي نَهَى عَنْهُ مُشْتَمِل عَلَى مَضَرَّة وَمَفْسَدَة رَاجِحَة فِي ضِمْنهَا مَنْفَعَة مَرْجُوحَة جُزْئِيَّة وَاَلَّذِي فَعَلَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه مِنْ هَذِهِ مَصْلَحَة وَمَنْفَعَة رَاجِحَة لَا مَضَرَّة فِيهَا عَلَى وَاحِد مِنْهُمَا فَالتَّسْوِيَة بَيْن هَذَا وَهَذَا تَسْوِيَة بَيْن مُتَبَايِنَيْنِ لَا يَسْتَوِيَانِ عِنْد اللَّه وَلَا عِنْد رَسُوله وَلَا عِنْد النَّاس
وَكَذَلِكَ الْجَوَاب عَنْ حَدِيث جَابِر سَوَاء
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَعْض طُرُقه أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتَصُّونَ بِأَشْيَاء مِنْ الزَّرْع مِنْ الْقِصْرِيّ وَمِنْ كَذَا وَمِنْ كَذَا
فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ لَهُ أَرْض فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُحْرِثهَا أَخَاهُ فَهَذَا مُفَسَّر مُبَيَّن ذُكِرَ فِيهِ سَبَب النَّهْي وَأُطْلِقَ فِي غَيْره مِنْ الْأَلْفَاظ فَيَنْصَرِف مُطْلَقهَا إِلَى هَذَا الْمُقَيَّد الْمُبَيِّن وَيَدُلّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَاد بِالنَّهْيِ
فَاتَّفَقَتْ السُّنَن عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَآلَفَتْ وَزَالَ عَنْهَا الِاضْطِرَاب وَالِاخْتِلَاف وَبَانَ أَنَّ لِكُلٍّ فِيهَا وَجْهًا وَأَنَّ مَا نَهَى عَنْهُ غَيْر مَا أَبَاحَهُ وَفَعَلَهُ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِب وَالْوَاقِع فِي نَفْس الْأَمْر وَالْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ