. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
فَإِنَّ الصَّحَابَة أَعْلَم بِمَعَانِي النُّصُوص وَقَدْ تَلَقَّوْهَا من في رسول الله فَلَا يُظَنّ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُقْدِم عَلَى قوله أمر رسول الله أَوْ حَرَّمَ أَوْ فَرَضَ إِلَّا بَعْد سَمَاع ذَلِكَ وَدَلَالَة اللَّفْظ عَلَيْهِ وَاحْتِمَال خِلَاف هَذَا كَاحْتِمَالِ الْغَلَط وَالسَّهْو فِي الرِّوَايَة بَلْ دُونه فَإِنْ رُدَّ قَوْله أَمَرَ وَنَحْوه بِهَذَا الِاحْتِمَال وَجَبَ رَدّ رِوَايَته لِاحْتِمَالِ السَّهْو وَالْغَلَط وَإِنْ قُبِلَتْ رِوَايَته وَجَبَ قَبُول الْآخَر
وَأَمَّا شَهَادَة الْعُرْف بِذَلِكَ فَأَظْهَر مِنْ أَنْ تَحْتَاج إِلَى تقرير بل قد علم الله وَعِبَاده مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ ذَلِكَ قَصْدهمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَعْقِدَا عَلَى السِّلْعَة عَقْدًا يَقْصِدَانِ بِهِ تَمَلُّكهَا وَلَا غَرَض لَهُمَا فِيهَا بِحَالٍ
وَإِنَّمَا الْغَرَض وَالْمَقْصُود بِالْقَصْدِ الْأَوَّل مِائَة بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَإِدْخَال تَلِك السِّلْعَة فِي الْوَسَط تَلْبِيس وَعَبَث وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْف الَّذِي لَا مَعْنَى لَهُ فِي نَفْسه بَلْ جِيءَ بِهِ لِمَعْنًى فِي غَيْره حَتَّى لَوْ كَانَتْ تِلْكَ السِّلْعَة تُسَاوِي أَضْعَاف ذَلِكَ الثَّمَن أَوْ تُسَاوِي أَقَلّ جُزْء مِنْ أَجْزَائِهِ لَمْ يُبَالُوا بِجَعْلِهَا مَوْرِدًا لِلْعَقْدِ لِأَنَّهُمْ لَا غَرَض لَهُمْ فِيهَا وَأَهْل الْعُرْف لَا يُكَابِرُونَ أَنْفُسهمْ فِي هَذَا
وَأَمَّا النِّيَّة وَالْقَصْد فَالْأَجْنَبِيّ الْمُشَاهِد لَهُمَا يَقْطَع بِأَنَّهُ لَا غَرَض لَهُمَا فِي السِّلْعَة وَإِنَّمَا الْقَصْد الْأَوَّل مِائَة بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَضْلًا عَنْ عِلْم الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَنِيَّتهمَا وَلِهَذَا يَتَوَاطَأ كَثِير مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَبْل الْعَقْد ثُمَّ يَحْضُرَانِ تَلِك السِّلْعَة مُحَلِّلًا لِمَا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله
وَأَمَّا الْمَقَام الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْوَسِيلَة إِلَى الْحَرَام حَرَام فَبَانَتْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّة وَالْفِطْرَة وَالْمَعْقُول
فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه مَسَخَ الْيَهُود قِرَدَة وَخَنَازِير لَمَّا تَوَسَّلُوا إِلَى الصَّيْد الْحَرَام بِالْوَسِيلَةِ الَّتِي ظَنُّوهَا مُبَاحَة وَسَمَّى أَصْحَاب رسول الله وَالتَّابِعُونَ مِثْل ذَلِكَ مُخَادَعَة كَمَا تَقَدَّمَ
وَقَالَ أَيُّوب السِّخْتِيَانِيّ يُخَادِعُونَ اللَّه كَمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَان لَوْ أَتَوْا الْأَمْر عَلَى وَجْهه كَانَ أَسْهَل
وَالرُّجُوع إِلَى الصَّحَابَة فِي مَعَانِي الْأَلْفَاظ مُتَعَيَّن سَوَاء كَانَتْ لُغَوِيَّة أَوْ شَرْعِيَّة وَالْخِدَاع حَرَام
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْعَقْد يَتَضَمَّن إِظْهَار صُورَة مُبَاحَة وَإِضْمَار مَا هُوَ مِنْ أَكْبَر الْكَبَائِر فَلَا تَنْقَلِب الْكَبِيرَة مُبَاحَة بِإِخْرَاجِهَا فِي صُورَة الْبَيْع الَّذِي لَمْ يُقْصَد نَقْل الْمِلْك فِيهِ أَصْلًا وَإِنَّمَا قَصْده حَقِيقَة الرِّبَا
وَأَيْضًا فَإِنَّ الطَّرِيق مَتَى أَفْضَتْ إِلَى الْحَرَام فَإِنَّ الشَّرِيعَة لَا تَأْتِي بِإِبَاحَتِهَا أَصْلًا لِأَنَّ إِبَاحَتهَا وَتَحْرِيم الْغَايَة جَمْع بَيْن النَّقِيضَيْنِ فَلَا يُتَصَوَّر أَنْ يُبَاح شَيْء وَيُحَرَّم مَا يُفْضِي إِلَيْهِ بَلْ لَا بُدّ مِنْ تَحْرِيمهمَا أَوْ إِبَاحَتهمَا وَالثَّانِي بَاطِل قَطْعًا فَيَتَعَيَّن الْأَوَّل
وَأَيْضًا فَإِنَّ الشَّارِع إِنَّمَا حَرَّمَ الرِّبَا وَجَعَلَهُ مِنْ الْكَبَائِر وَتَوَعَّدَ آكِله بِمُحَارَبَةِ اللَّه وَرَسُوله لِمَا فِيهِ مِنْ أَعْظَم الْفَسَاد وَالضَّرَر فَكَيْف يتصور مَعَ هَذَا أَنْ يُبِيح هَذَا الْفَسَاد الْعَظِيم بِأَيْسَر شَيْء يَكُون مِنْ الْحِيَل