وَهَذَا هُوَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ وَلَكِنْ قُولُوا حَدَائِقَ الْأَعْنَابِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ إِنَّمَا نَهَاهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ تَسْمِيَةِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ كَرْمًا لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ مُشْتَقٌّ عِنْدَهُمْ مِنَ الْكَرْمِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ رَجُلٌ كَرْمٌ بِمَعْنَى كَرِيمٍ وَقَوْمٌ كَرْمٌ أَيْ كِرَامٌ فَأَشْفَقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوهُمْ حُسْنُ أَسْمَائِهَا إِلَى شُرْبِ الْخَمْرِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ ثَمَرِهَا فَسَلَبَهَا هَذَا الِاسْمَ وَجَعَلَهُ صِفَةً لِلْمُسْلِمِ الَّذِي يَتَوَقَّى شُرْبَهَا وَيَمْنَعُ نَفْسَهُ الشَّهْوَةَ فِيهَا عِزَّةً وَتَكَرُّمًا انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ فَإِنَّ الْكَرْمَ الرَّجُلُ المسلم
ــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَغَيْره وَلَا إِلَى الْحَرَارَة كَالتَّمْرِ بَلْ هُوَ فِي غَايَة الِاعْتِدَال إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ فَوَائِده
فَلَمَّا كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَة سَمَّوْهُ كَرْمًا فَأَخْبَرَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْفَوَائِد وَالثَّمَرَات وَالْمَنَافِع الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّه قَلْب عَبْده الْمُؤْمِن مِنْ الْبِرّ وَكَثْرَة الْخَيْر أَعْظَم مِنْ فَوَائِد كَرْم الْعِنَب فَالْمُؤْمِن أَوْلَى بِهَذِهِ التَّسْمِيَة مِنْهُ
فَيَكُون مَعْنَى الْحَدِيث عَلَى هَذَا النَّهْي عَنْ قَصْر اِسْم الْكَرْم عَلَى شَجَر الْعِنَب بَلْ الْمُسْلِم أَحَقّ بِهَذَا الِاسْم مِنْهُ
وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم لَيْسَ الشَّدِيد بِالصُّرَعَةِ وَلَكِنْ الَّذِي يَمْلِك نَفْسه عِنْد الْغَضَب أَيّ مَالِك نَفْسه أَوْلَى أَنْ يُسَمَّى شَدِيدًا مِنْ الَّذِي يَصْرَع الرِّجَال
وَكَقَوْلِهِ لَيْسَ الْمِسْكِين بِهَذَا الطَّوَّاف الَّذِي تَرُدّهُ اللُّقْمَة وَاللُّقْمَتَانِ وَالْأَكْلَة وَالْأَكْلَتَانِ وَلَكِنَّهُ الَّذِي لَا يَسْأَل النَّاس وَلَا يُفْطَن لَهُ فَيُتَصَدَّق عَلَيْهِ أَي هَذَا أَوْلَى بِأَنْ يُقَال لَهُ مِسْكِين مِنْ الطَّوَّاف الَّذِي تُسَمُّونَهُ مِسْكِينًا
وَنَظِيره فِي الْمُفْلِس والرقوب وغيرهما
ونظيره قوله ليس الواصل بالمكافيء وَلَكِنَّهُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمه وَصَلَهَا وَإِنْ كَانَ هَذَا أَلْطَف مِنْ الَّذِي قَبْله
وَقِيلَ فِي مَعْنَى وَجْه آخَر وَهُوَ قَصْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلْب هَذَا الِاسْم الْمَحْبُوب لِلنُّفُوسِ الَّتِي يَلَذّ لَهَا سَمَاعه عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَة الَّتِي تُتَّخَذ مِنْهَا أُمّ الْحَبَائِب فَيَسْلُبهَا الِاسْم الَّذِي يَدْعُو النُّفُوس إِلَيْهَا وَلَا سِيَّمَا فَإِنَّ الْعَرَب قَدْ تَكُون سَمَّتْهَا كَرْمًا لِأَنَّ الْخَمْر الْمُتَّخَذَة مِنْهَا تَحُثّ عَلَى الْكَرَم وَبَذْل الْمَال فَلَمَّا حَرَّمَهَا الشَّارِع نَفَى اِسْم الْمَدْح عَنْ أَصْلهَا وَهُوَ الْكَرْم كَمَا نَفَى اِسْم الْمَدْح عَنْهَا وَهُوَ الدَّوَاء فَقَالَ إِنَّهَا دَاء وَلَيْسَتْ بِدَوَاءٍ وَمَنْ عَرَفَ سِرّ تَأْثِير الأسماء في مسمياتها نقرة وَمَيْلًا عَرَفَ هَذَا فَسَلَبَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الِاسْم الْحَسَن وَأَعْطَاهُ مَا هُوَ أَحَقّ بِهِ مِنْهَا وَهُوَ قَلْب الْمُؤْمِن
وَيُؤَكِّد الْمَعْنَى الْأَوَّل أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ الْمُسْلِم بِالنَّخْلَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنَافِع وَالْفَوَائِد حَتَّى إِنَّهَا كُلّهَا مَنْفَعَة لَا يَذْهَب مِنْهَا شَيْء بِلَا مَنْفَعَة حَتَّى شَوْكهَا وَلَا يَسْقُط عَنْهَا لِبَاسهَا وَزِينَتهَا كَمَا لا