للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَكِنْ الْعَالِمُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسَتُّرُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ شَرَّهُ وَمَعْصِيَتَهُ وَمُخَالَفَتَهُ وَبِدْعَتَهُ إنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ خَيْرَهُ كَذَلِكَ مُتَعَدٍّ لَكِنْ التَّعَدِّي بِهَذَا الْفَنِّ أَكْثَرُ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى النُّفُوسِ الِاقْتِدَاءُ فِي شَهَوَاتِهَا وَمَلْذُوذَاتِهَا وَعَادَاتِهَا أَكْثَرُ مِمَّا تَقْتَدِي بِهِ فِي التَّعَبُّدِ الَّذِي لَيْسَ لَهَا فِيهِ حَظٌّ فَإِذَا رَأَتْ ذَلِكَ مِنْ عَالِمٍ وَإِنْ أَيْقَنَتْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ بِدْعَةٌ تُعْذِرُ نَفْسَهَا فِي ارْتِكَابِهَا لِذَلِكَ إنْ سَلِمَتْ مِنْ سُمِّ الْجَهْلِ تَقُولُ لَعَلَّ عِنْدَ هَذَا الْعَالِمِ الْعِلْمَ بِجَوَازِ ذَلِكَ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَوْ رَخَّصَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ لَهُمْ، وَهُوَ كَثِيرٌ مُشَاهَدٌ فَإِذَا رَأَتْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ يَرْتَكِبُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ الِاسْتِصْغَارُ وَالتَّهَاوُنُ بِمَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ السُّمُّ الْقَاتِلُ.

وَقَدْ قَالُوا ارْتِكَابُ الْكَبَائِرِ أَهْوَنُ مِنْ الِاسْتِصْغَارِ بِالصَّغَائِرِ لِأَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ يُرْجَى لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى اللَّهِ وَيَتُوبَ وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالصَّغَائِرِ قَلَّ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ، وَقَدْ قَالُوا لَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَهَذَا بَيِّنٌ لِأَنَّ الصَّغَائِرَ إذَا اجْتَمَعَتْ صَارَتْ كَبَائِرَ فَيَكُونُ هَذَا الْعَالِمُ الَّذِي يَتَعَاطَى شَيْئًا مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ الْبِدَعِ سَبَبًا لِعَطَبِ مَنْ يَرَاهُ مِمَّنْ هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ رُتْبَةً فِي الدِّينِ لِاقْتِدَائِهِ بِهِ وَاسْتِسْهَالِهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

وَقَدْ سَبَكَ الْفَقِيهُ أَبُو الْمَنْصُورِ فَتْحُ بْنُ عَلِيٍّ الدِّمْيَاطِيُّ هَذَا الْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ مِنْهَا

أَيُّهَا الْعَالِمُ إيَّاكَ الزَّلَلْ ... وَاحْذَرْ الْهَفْوَةَ فَالْخَطْبُ جَلَلْ

هَفْوَةُ الْعَالِمِ مُسْتَعْظَمَةٌ ... إنْ هَفَا أَصْبَحَ فِي الْخَلْقِ مَثَلْ

وَعَلَى زَلَّتِهِ عُمْدَتُهُمْ ... فِيهَا يَحْتَجُّ مَنْ أَخْطَأَ وَزَلْ

لَا تَقُلْ يُسْتَرُ عَلَى زَلَّتِي ... بَلْ بِهَا يَحْصُلُ فِي الْعِلْمِ الْخَلَلْ

إنْ تَكُنْ عِنْدَك مُسْتَحْقَرَةً ... فَهِيَ عِنْدَ اللَّهِ وَالنَّاسِ جَبَلْ

لَيْسَ مَنْ يَتْبَعُهُ الْعَالِمُ فِي ... كُلِّ مَا دَقَّ مِنْ الْأَمْرِ وَجَلْ

<<  <  ج: ص:  >  >>