بِغَيْرِهَا لَكِنَّهُمْ شَحُّوا بِبَطَالَةِ الْوَقْتِ الَّذِي تُوقَفُ فِيهِ الدَّابَّةُ حَتَّى يَفْرُغَ مَا فِي الْقَادُوسِ. فَإِنْ قَالَ الصَّانِعُ مَثَلًا: لَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَاطِ الطَّحِينَيْنِ وَإِنْ فَرَغَ مَا فِي الْقَادُوسِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ مَا تَحْتَ الْحَجَرِ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَفُّظُ مِنْهُ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ فَاغْتُفِرَ لِيَسَارَةِ أَمْرِهِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ وَلِكَوْنِ نُفُوسِ النَّاسِ تَسْمَحُ بِهِ بِخِلَافِ مَا يَبْقَى فِي الْقَادُوسِ فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ النَّاسِ عَدَمُ الْمُسَامَحَةِ بِهِ لَكِنْ يَحْتَاجُ أَنْ يُرَاعَى حَالُ الشَّخْصَيْنِ فَيُسْكَبُ طَحِينُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقِيبَ مَنْ يُجَانِسُهُ فِي الدِّينِ وَالتَّسَبُّبِ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ وَأَمَّا لِسَانُ الْوَرَعِ فَلَا يُسَامِحُ صَاحِبُهُ فِي الِاخْتِلَاطِ أَصْلًا وَإِنْ كَانَ عَقِيبَ مَنْ يُجَانِسُهُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مَرَاتِبَ الْوَرَعِ مُتَفَاوِتَةٌ بَلْ طَرِيقُ الْوَرَعِ أَنْ يَطْحَنَ فِي بَيْتِهِ، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ يَدِهِ، وَلَا مِنْ تَحْتِ نَظَرِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُقْفِلُ عَلَى قُوتِهِ بِقُفْلِ حَدِيدٍ حَتَّى يُوقِنَ بِسَلَامَتِهِ مِمَّا يَطْرَأُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ سَمِعْتُ سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّ شَيْخَهُ سَيِّدِي أَبَا الْحَسَنِ الزَّيَّاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ إذَا خَلَا بِهِ يَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ كَمْ قَرَأْت حِزْبًا عَلَى الطَّحِينِ الَّذِي طَحَنْته الْبَارِحَةَ؟ فَأَقُولُ: لَا فَيَقُولُ: قَرَأْت عَلَيْهِ رُبْعَ الْخِتْمَةِ وَمَرَّةً يَقُولُ أَكْثَرَ وَمَرَّةً يَقُولُ أَقَلَّ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِكَيْ يُنَبِّهَهُ عَلَى طَرِيقِ الْوَرَعِ.
وَالْوَرَعُ أَيْضًا يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَشْخَاصِ فَلَيْسَ وَرَعُ الْغَرِيبِ كَوَرَعِ أَهْلِ الْبَلَدِ فَوَرَعُ الْغَرِيبِ سُوقُ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أُصُولَ الْأَشْيَاءِ غَالِبًا فَيَعْرِفُونَ الْمَوَاضِعَ الْمَغْصُوبَةَ مِنْ غَيْرِهَا وَأَهْلُ الْغَصْبِ وَالظُّلْمِ، وَكَذَلِكَ يَعْرِفُونَ مَنْ يَتَحَفَّظُ عَلَى دِينِهِ وَالْغَرِيبُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْجَهْلُ بِذَلِكَ فَقَدْ يَتَحَفَّظُ مِنْ جِهَةٍ وَهِيَ مِمَّا يَرْغَبُ فِيهَا وَقَدْ يَقْصِدُ إلَى جِهَةٍ وَهِيَ مِمَّا يَرْغَبُ عَنْهَا عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُهَا وَقَدْ كَانَ بِالْمَغْرِبِ بِمَدِينَةِ سَبْتَةَ وَهِيَ مِنْ أَكْثَرِ بِلَادِ الْمَغْرِبِ سَمَكًا وَكَانَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ قَدْ اشْتَهَى السَّمَكَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَكْلِهِ لِوَرَعِهِ فَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ كَانَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute