وَيَظْلِمُهُمْ إلَّا هَلَكَ بِدُعَائِهِمْ عَلَيْهِ فَتَحَيَّرَ السُّلْطَانُ فِي أَمْرِهِمْ فَطَلَبَ مِنْهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ أَنْ يُوَلِّيَهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُ السُّلْطَانُ: أَنْتَ تَعْرِفُ الشَّرْطَ فَقَبِلَهُ فَوَلَّاهُ فَخَرَجَ مِنْ حِينِهِ فَغَصَبَ مِلْحًا وَبِلَادُ السُّودَانِ لَيْسَ فِيهَا مِلْحٌ وَتَرَكَهُ فِي الْبَلَدِ وَمَضَى لِسَفَرِهِ ذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ وَصَلَ تَرَكَ النُّزُولَ فِي مَوْضِعِ الْوِلَايَةِ وَجَلَسَ فِي الْجَامِعِ وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ وَالْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ فَقَالُوا لَهُ: أَلَا تَطْلُعُ إلَى مَوْضِعِك؟ فَقَالَ: لَا، مَا جِئْت إلَّا عَلَى أَنِّي وَاحِدٌ مِنْكُمْ وَفِي الْجَامِعِ يُمْكِنُنِي أَنْ أُبَاشِرَكُمْ، وَلَا أَصْدُرُ إلَّا عَنْ رَأْيِكُمْ أَوْ كَمَا قَالَ.
فَبَقِيَ كَذَلِكَ مُدَّةً فَاعْتَقَدُوهُ وَحَسَّنُوا بِهِ الظَّنَّ فَلَمَّا أَنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُمْ تَمَارَضَ فَاجْتَمَعَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَسَأَلُوهُ عَنْ مُوجِبِ مَرَضِهِ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ عَدَمِ الْمِلْحِ فَقَالُوا لَهُ: نَأْتِي لَك بِالْمِلْحِ فَقَالَ: إنِّي لَا أَعْرِفُ أَصْلَهُ وَإِنَّ لِي مِلْحًا بِالْبِلَادِ أَعْرِفُ جِهَتَهُ وَأَصْلَهُ فَلَعَلَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الشِّفَاءُ فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ أُرْسِلَ مَنْ يَأْتِي بِهِ فَعَلْت وَإِلَّا فَلَا، فَأَذَنُوا لَهُ فَأَرْسَلَ مَنْ يَأْتِي بِهِ فَلَمَّا أَنْ حَصَلَ عِنْدَهُ فَرَّقَهُ عَلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْبَرَكَةِ فَجَاءَ شَخْصٌ مِنْهُمْ إلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلْت بِالْمِلْحِ الَّذِي أَخَذْته؟ فَقَالَ: هُوَ ذَا لَمْ أَسْتَعْمِلْ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدُ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَسْتَعْمِلْهُ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ وَإِنِّي لَمْ أَسْتَعْمِلْ مِنْهُ شَيْئًا فَلَمَّا أَنْ عَلِمَ الْوَالِي أَنَّهُمْ قَدْ أَكَلُوا الْمِلْحَ طَلَعَ إلَى مَوْضِعِ الْوِلَايَةِ وَمَدَّ يَدَهُ إلَيْهِمْ فَجَاءَ الشَّخْصُ الْمَذْكُورُ إلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ أَقُلْ لَك: إنَّ تَحْتَ هَذَا شَيْئًا فَقَامَا مَعًا وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْحَهُ مَعَهُ وَجَاءَا إلَى الْوَالِي فَوَضَعَا الْمِلْحَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَا لَهُ: إنَّا لَمْ نَسْتَعْمِلْ مِنْهُ شَيْئًا فَخَافَ مِنْهُمَا وَخَرَجَ هَارِبًا مِنْ حِينِهِ أَوْ كَمَا جَرَى. وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا أَكَلَ الْحَلَالَ لَمْ تُرَدَّ دَعْوَتُهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا الَّذِي وَقَعَ بِسَبَبِ بَيْضَةٍ وَمِلْحٍ فَمَا بَالُك بِخَلْطِ الْقُوتِ فِي كُلِّ طَحْنَةٍ.
وَلَعَلَّ الصَّانِعَ يَقُولُ: إنَّ فِعْلَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِلضَّرُورَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُنِي غَيْرُهُ؛ لِأَنِّي إنْ صَبَرْت حَتَّى يَفْرُغَ طَحِينُ الْأَوَّلِ بِالْكُلِّيَّةِ أَخَافُ أَنْ يَنْكَسِرَ حَجَرُ الطَّاحُونِ أَوْ يَفْسُدُ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَفْعَلُ فِي ذَلِكَ مَا يَفْعَلُ حَتَّى تَقِفَ الدَّابَّةُ وَيُبَدِّلَهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute