مِنْ بَيْنِ الْعَلَمَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ قُرْصُهَا بَعْدُ لَمْ يَكْمُلْ مَغِيبُهُ فَيَدْخُلُ الْخَلَلُ فِي حَجِّهِمْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْوُقُوفَ فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ هُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ.
وَكَثْرَةُ الدُّعَاءِ فِي عَرَفَةَ وَالْإِلْحَاحِ بِهِ وَالِابْتِهَالُ وَالتَّضَرُّعُ هُوَ السُّنَّةُ عُمُومًا. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ» وَلَا يَتْرُكُ ذَلِكَ إلَّا لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَعْلَى. وَذَلِكَ مِثْلُ مَا حُكِيَ عَنْ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا أَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَالنَّاسُ يَدْعُونَ وَيَبْتَهِلُونَ، وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ فَلَمَّا أَنْ نَفَرَ النَّاسُ قَبَضَ بِيَدِهِ عَلَى لِحْيَتِهِ وَقَالَ وَاسَوْأَتَاهُ، وَإِنْ غُفِرَتْ ثُمَّ نَفَرَ مَعَ النَّاسِ فَلَحْظَةٌ مِنْ هَذَا السُّكُوتِ وَالْوَقَارِ وَالْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ» فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَكُونُ السُّكُوتُ أَفْضَلَ مِنْ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ؟ فَجَوَابُهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إخْبَارًا عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» فَإِذَا كَانَ مَنْ اشْتَغَلَ بِذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَفْضَلَ مِنْ الدَّاعِي فَمَا بَالُك بِمَنْ أُلْبِسَ خِلْعَةَ التَّضَرُّعِ وَالِافْتِقَارِ وَالِانْكِسَارِ فَهُوَ أَفْضَلُ مَقَامًا سِيَّمَا مَعَ الْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ وَالْفِكَرِ السُّنِّيَّةِ الْجَلِيلَةِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ» وَقِيلَ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ الدَّهْرِ. فَإِذَا تَبَيَّنَ لَك ذَلِكَ عَلِمْت أَنَّ الْخُشُوعَ وَالسُّكُوتَ وَالْحُضُورَ وَاسْتِصْغَارَ النَّفْسِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ الْعَظِيمِ آكَدُ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَإِنْ كَانَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ أَوْ الدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ. وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ قَبْلُ؛ وَلِأَنَّ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمَ أَجَلُّ الْمَقَامَاتِ وَأَعْلَاهَا وَذَلِكَ لَا يَقُومُ فِيهِ إلَّا وَاحِدُ عَصْرِهِ. نَعَمْ لَا بُدَّ مِنْ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي أُمِرَ فِيهَا الْمُكَلَّفُ بِالدُّعَاءِ كَالِاسْتِسْقَاءِ وَفِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا إلَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute