للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ أَحْوَالِنَا الْيَوْمَ فِي تَوْلِيَةِ الْمَنَاصِبِ، وَالْعَمَلِ عَلَيْهَا، بَلْ يَبْذُلُ بَعْضُنَا الْمَالَ فِي تَحْصِيلِهَا فَأَيُّ نِسْبَةٍ بَيْنَ هَذَا الْحَالِ، وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ طَلَبَهُ» ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ. . .» الْحَدِيثَ، فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ بِهِ قُبْحُ تَعَاطِيهِمْ لِذَلِكَ.

فَإِنْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْبَذْلُ فِي ذَلِكَ لِمَا يَرَاهُ مِنْ أَنَّ فِيهِ أَهْلِيَّةً لِلْمَنْصِبِ دُونَ غَيْرِهِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ - أَنَّ فِي هَذَا تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ.

الثَّانِي - أَنَّ التَّعَرُّضَ لِلْأَحْكَامِ فِيهِ إشْغَالُ الذِّمَّةِ بِأَمْرٍ لَا يُعْلَمُ هَلْ يُتَخَلَّصُ مِنْهُ أَمْ لَا؟ وَخَلَاصُ الذِّمَّةِ مُتَعَيِّنٌ، فَإِنْ اُحْتُجَّ بِمَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَنْ نَبِيِّهِ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: ٥٥] فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ مَعْصُومُونَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُهُمْ أَلَا تَرَى إلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ طَلَبَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَذَلِكَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى سَبِيلِ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى غَيْرِهِ لِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ نَبِيٌّ مَلِكٌ، فَلَمَّا أَنْ عَلِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ خَافَ عَلَى غَيْرِهِ إنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ يَهْلَكُ بِسَبَبِهِ، وَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ أَمِنَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ عِصْمَتِهِ، هَذَا وَجْهٌ.

الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُوسُفَ الصِّدِّيقَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَقَعُ بِالنَّاسِ شِدَّةٌ وَغَلَاءٌ خَافَ عَلَيْهِمْ إنْ تَوَلَّى غَيْرُهُ ذَلِكَ أَنْ يَهْلَكُوا هَلَاكَ اسْتِئْصَالٍ فَأَشْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، فَطَلَبَ مَا طَلَبَ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَشِيَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَصِّرُوا فِي حَقِّهِ، وَالتَّقْصِيرُ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ إذْ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: ٣٤] ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى طَلَبِ الْوِلَايَةِ.

وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَعْدِلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>