للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْقُضَاةِ كَانَ إذَا جَلَسَ لِلْأَحْكَامِ جَلَسَ إلَى جَانِبِهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ الْوَجْهِ أَبْيَضُ الْبَدَنِ، فَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَفْصِلَ الْحُكْمَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ نَظَرَ إلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ يَفْصِلُ الْحُكْمَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَسُئِلَ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَقَالَ: اسْأَلُوهُ فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَنْبُشُ الْقُبُورَ فَمَاتَ قَاضِي الْبَلَدِ قَالَ: فَذَهَبْت إلَيْهِ لَيْلًا فَنَبَشْت عَلَيْهِ حَتَّى وَصَلْت إلَيْهِ، وَجِئْت آخُذُ الْكَفَنَ، وَإِذَا بِشَخْصَيْنِ قَدْ دَخَلَا فَرُعِبْت مِنْهُمَا فَرَجَعْت فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْقَبْرِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى قَدَمَيْهِ فَشَمَّهُمَا فَقَالَ: هَاتَانِ قَدَمَانِ مَا عَصَتَا اللَّهَ قَطُّ، فَقَالَ لَهُ: تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى فَرْجِهِ فَشَمَّهُ فَقَالَ: هَذَا فَرْجٌ مَا عَصَى اللَّهَ قَطُّ، فَقَالَ لَهُ: تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى بَطْنِهِ فَشَمَّهَا فَقَالَ هَذِهِ بَطْنٌ مَا أَكَلَتْ الْحَرَامَ قَطُّ، فَقَالَ لَهُ: تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى يَدَيْهِ فَشَمَّهُمَا فَقَالَ: هَاتَانِ يَدَانِ مَا عَصَتَا اللَّهَ قَطُّ، فَقَالَ لَهُ: تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى فِيهِ فَشَمَّهُ فَقَالَ: هَذَا لِسَانٌ مَا عَصَى اللَّهَ قَطُّ، فَقَالَ لَهُ: تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى عَيْنَيْهِ فَشَمَّهُمَا فَقَالَ: هَاتَانِ عَيْنَانِ مَا عَصَتَا اللَّهَ قَطُّ، فَقَالَ لَهُ: تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى أُذُنَيْهِ فَشَمَّهُمَا فَسَكَتَ، فَقَالَ لَهُ: مَا بَالُك؟ فَقَالَ لَهُ: هَاتَانِ أُذُنَانِ جَاءَهُ يَوْمًا خَصْمَانِ فَأَصْغَى إلَى أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ فَارْتَفَعَا يَضْرِبَانِهِ، فَهَرَبْت فَحَصَلَ لِي هَذَا مِنْ هُوِيِّ الْمِقْمَعَةِ فَأَصْبَحَ وَجْهِي كَمَا تَرَى انْتَهَى.

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ، وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْحِكَايَةِ مَا أَعْجَبَهَا، فَأَيْنَ الْحَاكِمُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ هَذَا السَّيِّدُ هُوَ، وَاَللَّهِ أَعَزُّ شَيْءٍ يَكُونُ، وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ يَنْظُرُ إلَى كُلِّ مَوْضِعٍ يُضْطَرُّ فِيهِ إلَى الصَّبْرِ فَيَهْرُبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْبَشَرِيَّةَ فِي الْغَالِبِ عَاجِزَةٌ عَنْ الصَّبْرِ، فَإِنْ وَقَعَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْتَارَهُ، وَيُضْطَرَّ إلَيْهِ فَالِاسْتِغَاثَةُ إذْ ذَاكَ بِرَبِّهِ لَعَلَّ أَنْ يُصَبِّرَهُ عَلَى مَا ابْتَلَاهُ بِهِ، فَبُعْدُهُ مِنْ بَابِ الِابْتِلَاءِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ يُرْجَى لَهُ أَنْ يُعَانَ، وَأَنْ يَسْلَمَ مِنْ الْآفَاتِ الْمَنُوطَةِ بِهِ يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ قَوْلِهِ: «لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إذَا أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا» ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ طَلَبَهُ» انْتَهَى.

فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى الْغَالِبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>