جَرَى بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّ السُّلْطَانَ أَجَبَرَ الشَّيْخَ الْجَلِيلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عِمْرَانَ عَلَى الْقَضَاءِ، فَاسْتَشَارَ بَعْضَ الْأَكَابِرِ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: لَا تَتَوَلَّى، وَإِنْ تَوَقَّعْت الْمَوْتَ قَالَ لَهُ آخَرُونَ: إنْ تَوَقَّعْت الْمَوْتَ تَوَلَّ، وَاحْكُمْ بِالْعَدْلِ، وَهُمْ يَعْزِلُونَك فَسَمِعَ مِنْ الثَّانِي فَتَوَلَّى، وَحَكَمَ بِالْعَدْلِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَيَّامًا يَسِيرَةً، وَعَزَلُوهُ فِي حِكَايَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْهَرَبُ الْكُلِّيُّ مِنْ الْوِلَايَةِ، وَأَسْبَابِهَا إذْ أَنَّهَا احْتَوَتْ - سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ - عَلَى حُظُوظِ النُّفُوسِ مِنْ الرِّيَاسَةِ الْمَوْجُودَةِ فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالَ الَّذِي هُوَ مُعَلَّقٌ بِالْقُلُوبِ فِي الْغَالِبِ يُبْذَلُ فِي الْمَنَاصِبِ، وَلَا تُبْذَلُ الْمَنَاصِبُ فِيهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ: الزُّهْدُ فِي الرِّيَاسَةِ أَفْضَلُ، وَأَعْظَمُ مِنْ أَلْفِ زُهْدٍ فِي الْمَالِ، وَلْيُحْذَرْ مِنْ أَنْ يَمِيلَ إلَى خَاطِرِ النَّفْسِ، وَالْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ، وَالْإِلْزَامِ الْمُعَيَّنَةِ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ، فَقَدْ تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ، أَوْ أَحَدٌ مِمَّنْ ذُكِرَ أَنَّهُ مِنْ الصِّنْفِ الَّذِينَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ الْوِلَايَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَيَقَعُ بِالْقَضَاءِ فِي الْقَضَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ آفَةٌ عَلَيْهِ عَاجِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ عَلَيْهِ مَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنْ الِاشْتِغَالِ لِكَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ إنْ كَانَ شَابًّا إذْ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إذَا جَاءَهُ الْخَصْمَانِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِمُطَالَعَةِ الْمَسَائِلِ، أَوْ غَيْرِهَا، وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ تَرْكُ الضَّرُورَاتِ كُلِّهَا إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ شَرْعًا لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ قَوْلِهِ: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي، وَهُوَ غَضْبَانُ» انْتَهَى.
وَعَدَّاهُ الْفُقَهَاءُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَا سِنٍّ فَأَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا بَلَغَ أَحَدُهُمْ الْأَرْبَعِينَ طَوَى الْفِرَاشَ، وَانْعَزَلَ عَنْ النَّاسِ، وَتَبَتَّلَ لِلْعِبَادَةِ، وَتَرَكَ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ إذْ ذَاكَ، فَمَا بَالُك بِالدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ هَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِيهِ أَعْنِي: أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِيءُ لِلْإِنْسَانِ إلَّا بَعْدَ الطَّعْنِ فِي السِّنِّ حِينَ تَوَقُّعِ هُجُومِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ غَالِبًا لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ يَقُولُ: «مُعْتَرَكُ مَنَايَا أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ» ، وَيَكْفِي مِنْ التَّنْفِيرِ عَنْهُ مَا حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute