للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُسَامَحُ فِيهِ إلَّا الشَّيْءَ الْخَفِيفَ كَالسَّوِيقِ وَنَحْوِهِ. وَمِنْ الطُّرْطُوشِيِّ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ الْأَكْلِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: أَمَّا الشَّيْءُ الْخَفِيفُ مِثْلَ السَّوِيقِ وَيَسِيرِ الطَّعَامِ فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا، وَلَوْ خَرَجَ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ كَانَ أَعْجَبَ إلَيَّ وَأَمَّا الْكَثِيرُ فَلَا يُعْجِبُنِي وَلَا فِي رِحَابِهِ. وَقَالَ فِي الَّذِي يَأْكُلُ اللَّحْمَ فِي الْمَسْجِدِ: أَلَيْسَ يَخْرُجُ لِغَسْلِ يَدِهِ؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: فَلْيَخْرُجْ لِيَأْكُلْ انْتَهَى، وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْ هَذَا وَهُوَ الْكَلَامُ بِغَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: وَأَكْرَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِأَلْسِنَةِ الْعَجَمِ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمَا قِيلَ فِي أَلْسِنَةِ الْأَعَاجِمِ إنَّهَا خَبٌّ قَالَ: وَلَا يُفْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ شَيْءٌ مِنْ الْخَبِّ قَالَ: وَهُوَ لِمَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَشَدُّ انْتَهَى.

وَهَذَا الْأَمْرُ الْيَوْمَ قَدْ كَثُرَ وَشَاعَ حَتَّى إنَّ الْقَوَمَةَ لَيُخْرِجُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي كُلِّ يَوْمٍ صِحَافًا كَثِيرَةً وَأَوْرَاقًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ كَثْرَةِ مَا يُؤْكَلُ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَجْتَمِعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الذُّبَابُ وَالْخُشَاشُ وَيَكْثُرُ الْقِطَاطُ، وَيَرَوْنَ أَنَّ إطْعَامَهُمْ الطَّعَامَ مِنْ بَابِ الْحَسَنَاتِ فَتَكْثُرُ الْقِطَاطُ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا أَكَلَ أَحَدٌ فِي الْمَسْجِدِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْقِطَاطُ فِي الْمَسْجِدِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَيَبُلْنَ فِيهِ وَبَوْلُهُنَّ نَجِسٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ عِيَانًا فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى صَلَاةِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَبُطْلَانِ صَلَاتِهِمْ بِذَلِكَ، حَتَّى آلَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ هِرٌّ مُؤْذٍ أَرْسَلَهُ إلَى الْجَامِعِ، فَكَانَ النَّاسُ يُوَقِّرُونَ بُيُوتَ رَبِّهِمْ يَحْتَرِمُونَهَا وَيُنَزِّهُونَهَا عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهَا، وَكَانَتْ الْمَسَاجِدُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ» ، فَانْعَكَسَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ صَارَ الْمَسْجِدُ مَأْوًى لِلْقِطَاطِ الْمُؤْذِيَةِ، وَالْأَكْلُ سَبَبُ ذَلِكَ سِيَّمَا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَإِنَّهُ يَكْثُرُ وُرُودُ الْغُرَبَاءِ إلَيْهِ فَتَجِدُهُمْ يَأْكُلُونَ اللَّحْمَ وَيَرْمُونَ الْعِظَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَيَأْكُلُونَ الْبِطِّيخَ وَيَرْمُونَ قُشُورَهُ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَضَلَاتِ الْمَأْكُولِ وَقَلَّ مَنْ تَجِدُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>