للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ لَمَّا أَنْ خَرَجَ لِبَعْضِ غَزَوَاتِهِ قَالَ: اُنْظُرُوا إلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَذَهَبُوا إلَيْهِ ثُمَّ رَجَعُوا فَقَالُوا، وَجَدْنَاهُ فِي الْمَسْجِدِ يُصَلِّي فَقَالَ: اذْهَبُوا فَقَدْ نَصَرَنَا: سَبَّابَتُهُ فِي الْقِبْلَةِ عِنْدِي خَيْرٌ مِنْ كَذَا وَكَذَا أَلْفِ فَارِسٍ فَمَضَوْا؛ لِمَا كَانُوا بِسَبِيلِهِ فَنُصِرُوا، وَغَنِمُوا.

وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ابْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ» ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَنَّى الْمَرْءُ لِقَاءَ الْعَدُوِّ امْتِثَالًا لِلسُّنَّةِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُ فَشَأْنُ الْمُكَلَّفِ امْتِثَالُ الْأَدَبِ بِتَرْكِ الدَّعَاوَى، وَغَيْرِهَا حَتَّى إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ اسْتَعَانَ بِرَبِّهِ تَعَالَى، وَامْتَثَلَ أَمْرَهُ مُبْتَغِيًا بِذَلِكَ مَرْضَاتَهُ، وَمَا وَعَدَ عَلَيْهِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ لِفَاعِلِهِ.

وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ دَقِيقُهَا، وَجَلِيلُهَا فَلْيَكُنْ الْمَرْءُ مُتَيَقِّظًا لَهَا فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، وَالْجِهَادُ مَظِنَّةُ الْمَوْتِ غَالِبًا.

أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مَعْنَاهُ أَنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ تُنْقَلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَى الْجَنَّةِ، وَالتَّعَلُّقُ بِاَللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْأَصْلُ لِهَذَا الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَإِنَّمَا هِيَ أَسْبَابٌ، وَبَقِيَ الْأَمْرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا شَاءَ فَعَلَ فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ الْقَادِرُ عَلَى النَّصْرِ بِسَبَبٍ، وَبِغَيْرِ سَبَبٍ.

أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: ١٧] فَنَفَى الرَّمْيَ عَنْ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوَّلًا بِقَوْلِهِ، وَمَا رَمَيْت ثُمَّ أَثْبَتَهُ لَهُ بِقَوْلِهِ إذْ رَمَيْت فَإِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَمَعَ لِنَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ، وَالشَّرِيعَةِ.

أَمَّا الشَّرِيعَةُ فَلِكَوْنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ، وَرَمَى بِهِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَقَالَ: شَاهَتْ الْوُجُوهُ.

وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِوُصُولِ ذَلِكَ التُّرَابِ لِعَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَدُوِّ حَتَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَفْتَحَ عَيْنَهُ لِمِلْئِهَا بِالتُّرَابِ، وَهَذَا شَيْءٌ يَعْجَزُ الْبَشَرُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ أَفْعَالُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ امْتِثَالِ الْحِكْمَةِ ثُمَّ يُظْهِرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>