للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِأَنَّهُ إذَا عَطِبَ لَمْ يَعْطَبْ، وَحْدَهُ بَلْ يَعْطَبُ كُلُّ الْأَعْضَاءِ بِسَبَبِهِ.

وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَوَجَدَهُ مُمْسِكًا لِسَانَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا هَذَا قَالَ: هَذَا الَّذِي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ فَإِذَا كَانَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ مِثْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ.

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيُشَمِّرْ الْفَقِيرُ إلَى سُلُوكِ هَذِهِ الْمَفَازَةِ لِيَقْطَعَهَا فَإِنَّهَا عَقَبَةٌ كَئُودٌ لَا يُجَاوِزُهَا إلَّا الْمُشَمِّرُونَ - أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا مَنْ بَرَكَاتِهِمْ -.

ثُمَّ إنَّ الزُّهْدَ فِي الرِّيَاسَةِ أَعْظَمُ مِنْ الزُّهْدِ فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ، وَالْمَالَ يُنْفَقَانِ فِي الرِّيَاسَةِ، وَالرِّيَاسَةُ لَا تُنْفَقُ فِيهِمَا فَالزُّهْدُ فِيهَا مُتَعَيَّنٌ.

ثُمَّ لَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ الرِّيَاسَةَ إنَّمَا هِيَ فِي رُتَبِ الدُّنْيَا لَيْسَ إلَّا بَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي رُتَبِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَ نَفْسِهِ شَيْءٌ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ لَا شَيْءَ، وَمِنْ كَانَ عِنْدَ نَفْسِهِ لَا شَيْءَ فَهُوَ عِنْدَ رَبِّهِ شَيْءٌ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ - نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ -: مَنْ رَأَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْكَلْبِ فَالْكَلْبُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَمَا قَالَهُ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَلْبَ مَقْطُوعٌ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُقْطَعْ لَهُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ فَإِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِإِحْدَى الدَّارَيْنِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْآدَمِيُّ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - فَالْكَلْبُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْكَلْبِ.

وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، - وَأَعَادَ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ - أَنَّهُ كَانَ جَائِعًا، وَوَجَدَ فَضْلَةَ طَعَامٍ عَلَى مَزْبَلَةٍ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُ، وَإِذَا بِكَلْبٍ قَدْ جَاءَ فَأَكَلَ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى ثُمَّ نَبَحَ الْكَلْبُ عَلَى إبْرَاهِيمَ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ: لَا تَنْبَحْ عَلَيَّ، وَلَا أَنْبَحُ عَلَيْك كُلْ مِنْ جِهَتِك، وَأَنَا آكُلُ مِنْ جِهَتِي إنْ دَخَلْت أَنَا الْجَنَّةَ فَأَنَا خَيْرٌ مِنْك، وَإِنْ دَخَلْت النَّارَ فَأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي تَصْرِيحًا مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ.

وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ كَانَتْ نَفْسُكَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ فَسِرُّك فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا فَإِنْ نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ الثَّانِيَةِ فَسِرُّك فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَإِنْ نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ الثَّالِثَةِ فَسِرُّك فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَإِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>