اعْلَمْ أَنَّ مُبْتَدَأَ الْأُمُورِ، وَاَلَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ إلَّا بِهِ: الْعَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ زِينَةً لِخَلْقِهِ، وَنُورًا لَهُمْ فَبِالْعَقْلِ يَعْرِفُ الْعِبَادُ خَالِقَهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ، وَأَنَّهُ الْمُدَبِّرُ، وَهُمْ الْمُدَبَّرُونَ، وَهُوَ الْبَاقِي، وَهُمْ الْفَانُونَ فَاسْتَدَلُّوا بِعُقُولِهِمْ عَلَى مَا رَأَوْا مِنْ خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَسَمَائِهِ، وَشَمْسِهِ، وَقَمَرِهِ، وَلَيْلِهِ، وَنَهَارِهِ، وَعَلِمُوا أَنَّ لَهُمْ وَلِهَذَا الْخَلْقِ خَالِقًا، وَأَنَّ لِذَلِكَ كُلِّهِ مُدَبِّرًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ، وَلَا يَزَالُ، وَعَرَفُوا بِهِ الْحَسَنَ مِنْ الْقَبِيحِ، وَعَلِمُوا أَنَّ الظُّلْمَةَ فِي الْجَهْلِ، وَالنُّورَ فِي الْعِلْمِ هَذَا مَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ الْعَقْلُ.
فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ يَكْتَفِي الْعِبَادُ بِالْعَقْلِ دُونَ غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: إنَّ الْعَاقِلَ دَلَّهُ عَقْلُهُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ قِوَامَهُ، وَزِينَتَهُ عَلَى أَنَّ لَهُ رَبًّا، وَعَلِمَ أَنَّ رَبَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُ عَبَثًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقَهُ لَعِبًا، وَعَلِمَ أَنَّ لِخَالِقِهِ مَحَبَّةً، وَكَرَاهِيَةً، وَأَنَّ لَهُ طَاعَةً، وَمَعْصِيَةً فَلَمْ يَجِدْ عَقْلَهُ يَدُلُّهُ إلَّا عَلَى ذَلِكَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْعِلْمِ وَطَلَبِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِعَقْلِهِ إنْ لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ، وَيَعْلَمْهُ فَوَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ، وَهُوَ الَّذِي لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا بِهِ، فَقِيلَ لَهُ: صِفْ لَنَا مَا هَذَا الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ إلَّا طَلَبُهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْصِيرُ بِنَفْسِهِ عَنْهُ؟ فَقَالَ: طَلَبُ الْعِلْمِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ، وَأَنْبِيَاؤُهُ عَنْهُ: مِنْ أَمْرِهِ، وَنَهْيِهِ، وَوَعْدِهِ، وَوَعِيدِهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَجَنَّتِهِ، وَنَارِهِ، وَبَعْثِهِ، وَحِسَابِهِ، وَحَلَالِهِ، وَحَرَامِهِ، وَطَاعَتِهِ، وَمَعْصِيَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَكَرَاهَتِهِ.
فَقِيلَ لَهُ: هَلْ يَكْتَفِي الْعَالِمُ بِمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: لَا يَنْتَفِعُ الْعَالِمُ بِمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ دُونَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَأَنْ يُقِرَّ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ لَهُ نَفْعًا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ لَهُ، وَلَا ضُرًّا لَمْ يَكْتُبْهُ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ غَيْرُ ذَلِكَ أَوْ يُكْتَفَى بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ لَهُ، وَالْعَمَلِ بِهَا، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَرُكُوبِهَا، فَمَنْ آمَنَ، وَلَمْ يَعْمَلْ كَانَ مُتَهَاوِنًا، وَتَصْدِيقُ الْإِيمَانِ الْعَمَلُ بِهِ.
فَقِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ الْعِلْمُ، وَكَيْفَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: أَنْ تَعْمَلَ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ خَالَفَ هَوَاك، وَأَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَإِنْ أَسْخَطَك، وَأَنْ تَجْتَنِبَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute