للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُؤْنَةُ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ الصَّبْرُ وَالِاحْتِمَالُ لَهُ أَيْسَرَ عَلَيَّ مُؤْنَةً مِنْهُ، وَأَخَفَّ عَلَيَّ حِمْلًا مِنْ الزُّهْدِ، وَخَشِيت أَنْ لَا أَقْوَى عَلَى احْتِمَالِهِ، وَلَا تُطِيقُ نَفْسِي الْعَمَلَ بِكَمَالِهِ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِتَمَامِهِ، وَأَنْ تَمَلَّهُ نَفْسِي وَتَرْفُضَهُ، وَتَرْجِعَ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِمَّا فِيهِ هَلَاكُهَا، وَعَطَبُهَا، وَقَدْ عَرَفْت فَضْلَ الزُّهْدِ، وَعَظِيمَ قَدْرِهِ، فَصِفْ إلَيَّ أَمْرًا أَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الزُّهْدِ، وَيُخَفِّفُهُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قَدْ فَهِمْت قَوْلَك، وَلَقَدْ صَعُبَ عَلَيْك الذَّلُولُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْك الْيَسِيرُ، وَثَقُلَ عَلَيْك الْخَفِيفُ، وَعُمِّيَتْ عَلَيْك الْمَدَاخِلُ، وَمَا أَلُومُك حَيْثُ اشْتَدَّ عَلَيْك مِنْ أَمْرِك مَا ذَكَرْت حِينَ لَمْ تَعْلَمْ الْأَمْرَ الَّذِي لَهُ فِي الدُّنْيَا زَهِدْت، وَاَلَّذِي بِهِ عَلَيْهِ قَوِيت.

وَلَوْ عَلِمْته لَهَانَ عَلَيْك مِنْ أَمْرِك الشَّدِيدُ، وَخَفَّ عَلَيْك الثَّقِيلُ، وَسَهُلَتْ عَلَيْك مَوَارِدُهُ، وَسَهُلَتْ عَلَيْك فِيهِ الْمَذَاهِبُ، وَخَفَّتْ عَلَيْك فِيهِ الْمُؤْنَةُ فَافْهَمْ قَوْلِي بِعَقْلٍ، وَتَدَبَّرْهُ بِحِكَمٍ، وَخُذْ فِيهِ بِقُوَّةٍ وَجِدٍّ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَ زَهِدُوا فِي الدُّنْيَا، وَدَعَاهُمْ إلَى الزُّهْدِ فِيهَا وَرَفْضِهَا خِصَالٌ شَتَّى بَعْضُهَا أَرْفَعُ وَأَعْلَى دَرَجَةً مِنْ بَعْضٍ، وَكُلُّهَا دَاعِيَةٌ إلَى الزُّهْدِ فِيهَا، فَأَوَّلُ دَرَجَاتِ الزُّهْدِ: أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ الْعِبَادَ فِي الدُّنْيَا، وَجَعَلَ مَا فِيهَا زِينَةً لَهَا، وَزَهَّدَهُمْ فِيهَا، وَخَلَقَ الْآخِرَةَ، وَنَعِيمَهَا، وَنَدَبَهُمْ إلَيْهَا، وَرَغَّبَهُمْ فِيهَا، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ عَنْ الدُّنْيَا مُرْتَحِلُونَ، وَأَنَّهُمْ إلَى الْآخِرَةِ صَائِرُونَ فَرَغَّبَ الْعِبَادَ فِي الْبَاقِي، وَزَهَّدَهُمْ فِي الْفَانِي فَآثِرْ الْآخِرَةَ، وَاطْلُبْهَا، وَازْهَدْ فِي الدُّنْيَا، وَارْفُضْهَا لِكَيْ لَا يُنْتَقَصَ مِنْ حَظِّك فِي الْآخِرَةِ بِمَا نِلْت مِنْ نَعِيمِ دُنْيَاك: وَأَمَّا الْمَنْزِلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْعِبَادَ فِي الدُّنْيَا فَأَوْجَبَ الْمَوْتَ عَلَيْهِمْ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ مَيِّتُونَ، وَضَرَبَ لَهُمْ فِيهَا أَجَلًا فَلَمْ يَعْلَمُوا فِي أَيِّ الْأَوْقَاتِ، وَالسَّاعَاتِ تَأْتِيهِمْ مَنِيَّتُهُمْ فَتَحُولُ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ دُنْيَاهُمْ، وَنَعِيمِ عَيْشِهِمْ، وَمُفَارَقَةِ أَحْبَابِهِمْ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمَوْتُ فِي قُلُوبِهِمْ أَسْهَرُوا فِي اللَّيْلِ أَعْيُنَهُمْ، وَاشْتَغَلُوا بِهُمُومِهِمْ عَنْ أَهْلِيهِمْ، وَأَوْلَادِهِمْ، وَدَامَ حُزْنُهُمْ، وَبُكَاؤُهُمْ، وَزَهِدُوا فِي الدُّنْيَا، وَأَهْلِهَا وَنَعِيمِهَا، فَصَارَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الضِّيفَانِ، وَكَانَ الْمُقَوِّي لَهُمْ عَلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا ذِكْرُ الْمَوْتِ

<<  <  ج: ص:  >  >>