للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غَيْرِهِ فَمَا قَصُرَ بِك عَنْهُ فَارْفُضْهُ، وَازْهَدْ فِيهِ يَسْلَمُ لَك عَمَلُك، وَيَخِفُّ عَلَيْك.

ثِقَلُهُ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: أَوْضَحْت فَبَيَّنْت، وَأَرْشَدْت فَهَدَيْت، وَكَشَفْت فَأَرَيْت. فَصِفْ لِي كَيْفَ الزُّهْدُ؟ وَمَا حَدُّهُ؟ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِي الْعَمَلُ بِهِ؟ فَقَدْ اسْتَبَانَ لِي فَضْلُهُ، وَوَضَحَ لِي رُشْدُهُ.

فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إنَّ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا وَاجِبٌ عَلَيْك، وَهُوَ الْوَرَعُ لَا يَجُوزُ لَك التَّقْصِيرُ فِيهِ، وَلَا الرَّغْبَةُ عَنْهُ، وَهُوَ اجْتِنَابُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْك، وَنَهَاك عَنْهُ فَهَذَا الْأَمْرُ لَازِمٌ لَك لَا عُذْرَ لَك فِي التَّقْصِيرِ عَنْ الزُّهْدِ، وَالْقُرْبِ إلَى رَبِّك طَلَبًا لِلْفَضْلِ، وَنَفْيًا لِكُلِّ أَمْرٍ قَصُرَ بِك عَنْهُ مِنْ الْمُسَارَعَةِ فِي طَاعَتِهِ، وَالْمُسَابِقَةِ إلَى رِضْوَانِهِ، فَهَذَا مَا يَنْبَغِي لَك الْعَمَلُ بِهِ، وَإِدَارَةُ صَلَاحِ نَفْسِك عَلَيْهِ فَقَالَ: أَمَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيَّ، وَنَهَانِي عَنْهُ فَقَدْ دَلَّنِي عَلَيْهِ الْعِلْمُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ لَا يَنْبَغِي لِي الْمَقَامُ عَلَيْهِ، وَلَا الْعَمَلُ بِهِ فَزَهِدْت فِيهِ، وَرَفَضْته فَصِفْ لِي الزُّهْدَ الَّذِي أَرْجُو أَنْ أَنَالَ بِهِ كَرَامَةَ سَيِّدِي، وَأَنْ أَبْلُغَ مِنْ ذَلِكَ مَحَبَّتَهُ، وَأَنْ أَدْفَعَ بِهِ عَنِّي كَيْدَ الشَّيْطَانِ وَمَكْرَهُ.

فَقَالَ لَهُ: ذَلِكَ الزُّهْدُ فِي فُضُولِ الدُّنْيَا، وَالرِّضَا مِنْهَا بِيَسِيرِهَا، وَالْأَخْذُ مِنْهَا بِقَدْرِ الْبَلَاغِ إلَى غَيْرِهَا، وَرَفْضُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ فُضُولِهَا وَأُمُورِهَا، بِإِخْرَاجِ النَّاسِ مِنْ قَلْبِك فَلَا تَخَفْ أَحَدًا فِي اللَّهِ، وَلَا تَرُدَّ حَمْدَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَيَسْتَوِي النَّاسُ عِنْدَك فَلَا تَرْجُ أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ، وَلَا تَطْلُبْ إلَّا فَضْلَهُ، وَتَنْصَحُ فِي اللَّهِ فِي السِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةِ، وَلَا تَخَفْ لَوْمَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَلَا عَذْلَهُ، وَتُحِبُّ فِي اللَّهِ، وَتَبْغُضُ فِي اللَّهِ، وَلَا تُشْغِلُ قَلْبَك بِشَيْءٍ غَيْرَهُ، وَتَلْزَمُ التَّوَاضُعَ، وَالتَّذَلُّلَ لِرَبِّك، وَتُخْمِلُ ذِكْرَكَ، وَتُغَيِّبُ اسْمَكَ، وَلَا تُرِدْ بِذَلِكَ تَعْظِيمَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ غَيْرَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَتُحِبُّ الْمَوْتَ، وَتَكُونُ مُمْتَثِلًا لَهُ بَيْنَ عَيْنَيْك لِرَجَاءِ مَا بَعْدَهُ.

وَتَزْهَدُ فِي الْحَيَاةِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ، وَالْبَلِيَّةِ فَهَذَا أَصْلُ الزُّهْدِ فَإِذَا أَنْتَ وَصَلْت إلَى ذَلِكَ نِلْت شَرَفَ الْآخِرَةِ، وَنَجَوْت بِعَوْنِ اللَّهِ مِنْ بَلِيَّةِ عَاجِلَتِك فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: لَقَدْ ذَكَرْت لِي مِنْ أَمْرِ الزُّهْدِ شَيْئًا ضَاقَ بِهِ ذَرْعِي، وَاشْتَدَّ لَهُ غَمِّي، وَاعْتَصَرَ لَهُ قَلْبِي، وَاسْتَصْعَبَ بِهِ عَلَيَّ أَمْرِي، وَتَفَرَّقَ لَهُ رَأْيِي، وَاشْتَدَّتْ عَلَيَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>