للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَا يَعْجِزُ عَنْ وَصْفِهِ. يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا حُكِيَ أَنَّ شَابًّا جَاءَ إلَى شَيْخِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ وَإِمَامِهَا الْجُنَيْدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: لَهُ أَنَا جَائِعٌ فَهَلْ مَنْ يُطْعِمُنِي؟ فَقَامَ إنْسَانٌ مِمَّنْ لَهُ اتِّسَاعٌ فَقَالَ: عِنْدِي فَأَخَذَ الشَّابَّ، وَمَضَى مَعَهُ إلَى بَيْتِهِ، وَقَدَّمَ لَهُ طَعَامًا كَانَ الشَّابُّ يَشْتَهِيهِ فَمَدَّ يَدَهُ فَرَفَعَ لُقْمَةً، وَبَقِيَ بِهَا فِي يَدِهِ لَحْظَةً فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ كُلْ فَاللُّقْمَةُ إذَا أَكَلْتهَا عِنْدِي خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا فَوَضَعَ الْفَقِيرُ اللُّقْمَةَ مِنْ يَدِهِ، وَخَرَجَ وَلَمْ يَأْكُلْ عِنْدَهُ شَيْئًا، وَأَتَى إلَى الْجُنَيْدِ فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى فَقَامَ فَقِيرٌ فَقَالَ عِنْدِي فَذَهَبَ مَعَهُ فَقَدَّمَ لَهُ خُبْزًا وَبَصَلًا فَأَكَلَ حَتَّى شَبِعَ، ثُمَّ رَجَعَ فَجَاءَ الْأَوَّلُ إلَى الْجُنَيْدِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى. فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الشَّابُّ سَأَلَهُ الْجُنَيْدُ هَلْ أَكَلْت؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ لَهُ: وَمَا أَكَلْت؟ قَالَ: خُبْزًا وَبَصَلًا فَقَالَ لَهُ، وَمَا قَدَّمَ لَك هَذَا قَالَ لَهُ: قَدَّمَ لِي طَعَامًا مُفْتَخَرًا فَقَالَ لَهُ: مَا مَنَعَك مِنْ أَكْلِهِ؟ فَقَالَ لَهُ كُنْت جَائِعًا فَرَفَعْت اللُّقْمَةَ، وَأَنَا أَتَخَيَّرُ أَيَّ قَصْرٍ آخُذُهُ فِي الْجَنَّةِ فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ، وَإِذَا هُوَ قَدْ قَالَ: اللُّقْمَةُ إذَا أَكَلْتهَا عِنْدِي خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا فَاسْتَحْيَيْت مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ آكُلَ طَعَامَ رَجُلٍ خَسِيسِ الْهِمَّةِ لَيْسَ لَهُ هِمَّةٌ إلَّا فِي الدُّنْيَا فَتَرَكْتُهُ وَمَضَيْت، وَأَمَّا هَذَا فَنِيَّتُهُ أَنْ لَوْ كَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا فَهُوَ يَسْتَقِلُّهَا تَقْدِيمًا أَوْ كَمَا قَالَ.

فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ تُشْعِرُك بِأَنَّ الْآخِذَ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ يَدُهُ هِيَ الْعُلْيَا إذْ إنَّهُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ يُعْطِي مَا يَبْقَى، وَيَأْخُذُ مَا يَفْنَى فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ تَجِدْهُ صَوَابًا، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَسْتُورٌ بِلِسَانِ الْعِلْمِ، وَأَمَّا لِسَانُ الْوَرَعِ فَهُوَ أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ مُتَعَذَّرٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ غَالِبًا فَمَنْ وَقَعَ لَهُ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنَّهُ لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيُقِيمُ فِي الْبَرَارِي، وَالْقِفَارِ أَوْ يَكُونُ خَرَقَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْعَادَةَ فَلَا يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ - وَهُوَ الَّذِي يَسُرُّ وَلَا يَضُرُّ فَهُوَ الْفُتُوحُ الَّذِي يَأْتِي عَلَى يَدِ بَعْضِ الْإِخْوَانِ الْمُعْتَقِدِينَ الَّذِي يَعْرِفُ سَبَبَهُمْ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَسَارِ فَإِنْ أُخِذَتْ مِنْهُمْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ السُّرُورُ بِذَلِكَ، وَلَا يَتَضَرَّرُونَ بِهِ. فَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْسَامِ كُلِّهَا وَأَسْلَمُهَا مِنْ الْآفَاتِ الْمُتَوَقَّعَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>