وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ - وَهُوَ الَّذِي يَضُرُّ وَلَا يَسُرُّ فَهُوَ مَا كَانَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ، وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِوَصْفَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا لِمَا يُعْطِيهِ.
وَالثَّانِي - عَدَمُ اعْتِقَادِ الدَّافِعِ لِلْمَدْفُوعِ لَهُ فَإِنْ أَنْتَ قَبِلْت مِنْهُ مَا أَتَاك بِهِ تَضَرَّرَ بِذَلِكَ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ، وَلَا تُدْخِلُ عَلَيْهِ سُرُورًا لِعَدَمِ اعْتِقَادِهِ لَك، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْتَزَمَ فِي نَفْسِهِ طَرِيقَةً غَرِيبَةً قَلَّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ إلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْبَلُ صَدَقَةً وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ تَطَوُّعًا، وَلَا يَقْبَلُ شَيْئًا مِنْ أَرْبَابِ الْخَدَمِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا، وَإِنْ قَلَّتْ خِدْمَتُهُ، وَإِنْ تَحَرَّزَ مَا أَمْكَنَهُ، وَمَنْ أَهْدَى لَهُ مِنْ الْإِخْوَانِ الْمُعْتَقِدِينَ فَيَخْتَلِفُ حَالُهُ فِي ذَلِكَ فَبَعْضُهُمْ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا أَتَى بِهِ، وَبَعْضُهُمْ يَقْبَلُ مِنْهُ، ثُمَّ يُعَوِّضُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ بِلُطْفٍ وَسِيَاسَةٍ، وَمَا أَتَاهُ مِنْ جِهَةِ الْإِخْوَانِ الْمُتَسَبِّبِينَ الْمُعْتَقِدِينَ نَظَرَ إلَى اكْتِسَابِهِمْ.
فَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا بِلِسَانِ الْعِلْمِ نَظَرَ فِي حَالِ صَاحِبِهِ هَلْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ سُرُورٌ بِالْأَخْذِ مِنْهُ أَمْ لَا؟ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ أَنَّهُ سَوَاءٌ عِنْدَهُ أَخَذَ مِنْهُ أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ يَنْكَسِرُ خَاطِرُهُ عِنْدَ الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَيَنْجَبِرُ خَاطِرُهُ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ السُّرُورُ حِينَ الْأَخْذِ مِنْهُ أَخَذَهُ مِنْهُ فَمَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ الَّذِي يُقْبَلُ مِنْهُ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ غَرِيبَةٌ عَزِيزَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا مَنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ يُقَارِبُهُ لَا جَرَمَ أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَأَهْلُهُ، وَمَنْ يَلُوذُ بِهِ مِنْ شَظَفِ الْعَيْشِ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى فَلَقَدْ كَانَ يَأْخُذُ بِفَلْسٍ لَيْمُونًا فَيَأْتَدِمُ بِهِ غَدْوَةً، وَعَشِيَّةً هُوَ وَأَهْلُهُ.
وَقَدْ بَقِيَ أَهْلُهُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ لَا شَيْءَ عِنْدَهُمْ يَتَقَوَّتُونَ بِهِ فَأَخَذَ ثَوْبًا، وَدَخَلَ بِهِ إلَى الْبَلَدِ لِيَبِيعَهُ فَلَمْ يَدْفَعْ أَحَدٌ فِيهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ زِيِّ الْمَغَارِبَةِ فَرَدَّهُ، وَجَاءَ إلَى الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَدْخُلْ الْبَيْتَ خَشْيَةً مِنْ الْأَوْلَادِ أَنْ يَنْقَطِعَ رَجَاؤُهُمْ مِنْ الْقُوتِ إذْ ذَاكَ فَيَزِيدَ قَلَقُهُمْ فَجَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ الْأَوْلَادُ قَدْ نَامُوا فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ، وَجَدَهُمْ مَسْرُورِينَ يُكْثِرُونَ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ فَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا: كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا أَكَلَ خَرُوفًا، وَهُمْ فِي الشِّبَعِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute