للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْعَادَاتِ، وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَنْ يَدْخُلَ بِنَفْسِهِ خِيفَةً مِنْ مَوَاضِعِ الْعَطَبِ، وَأَعْنِي بِدُخُولِ الْخَلْوَةِ هُنَا مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْمُرِيدُ مِنْ الْمُجَاهَدَاتِ، وَأَمَّا لَوْ خَلَا بِنَفْسِهِ دُونَ مُجَاهَدَةٍ فَلَا يَحْتَاجُ هَذَا إلَى شَيْخٍ يُسْلِكُهُ، بَلْ لِسَانُ الْعِلْمِ قَائِمٌ عَلَيْهِ مَطْلُوبٌ بِهِ فِي الْخَلَاءِ، وَالْمَلَأِ لَا فَرْقَ إذْ ذَاكَ فِي حَقِّهِ مَعَ أَنَّهُ إذَا اتَّبَعَ لِسَانَ الْعِلْمِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي خَلْوَتِهِ وَجَلْوَتِهِ فَهُوَ وَلِيُّ وَقْتِهِ لِأَجْلِ حَالِ الزَّمَانِ فَمَا أَسْعَدَهُ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ طَرِيقَةُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ أَعْنِي تَرْكَ دُخُولِ الْخَلْوَةِ عَلَى نِظَامٍ مَعْلُومٍ.

أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُرَبِّي أَصْحَابَهُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، وَفِي الْأَسْوَاقِ يَحْتَرِفُونَ، وَفِي الْحَوَائِطِ يَعْمَلُونَ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الْخَلَوَاتُ عَلَى يَدِ الْمُرَبِّينَ بَعْدَ انْقِرَاضِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ، وَسَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ: إنَّمَا جُعِلَتْ الْخَلْوَةُ لِلْبَنَاتِ الْأَبْكَارِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ لِلْمُرِيدِينَ لَمَّا أَنْ كَثُرَتْ الْفِتَنُ وَالْمُخَالَفَاتُ فَاحْتَاجَ الْمُرِيدُونَ إذْ ذَاكَ إلَى الْفِرَارِ لِأَجْلِ صَلَاحِ دِينِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، وَخَوَاطِرِهِمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ السَّبِيلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِدُخُولِ الْخَلَوَاتِ وَالْفَلَوَاتِ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْخَلْوَةَ الْمَعْهُودَةَ عِنْدَ السَّالِكِينَ إلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِمَصَالِحِهَا وَمَفَاسِدِهَا، وَالدَّسَائِسِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَيْهِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ عَلَى يَدِ شَيْخٍ فَيُشْتَرَطُ فِي الشَّيْخِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِحَالِ الْمُرِيدِ، وَمَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ مِنْ الْأَطْوَارِ، وَمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ لَهُ مَرَاتِبُ عَدِيدَةٌ، وَكَذَلِكَ الْمُرِيدُ مِثْلُهُ، وَأَلْخَصُ مِنْ ذَلِكَ مَا سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُهُ: نَظَرُ الْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْهَلَاكَ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْحِيرَةَ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى هُوَ السُّمُوُّ وَالرِّفْعَةُ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى يُوجِبُ التَّعَبَ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى مِنْ جِنْسِهِ يُوجِبُ الرَّاحَةَ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ نَظَرُ الْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْهَلَاكَ. فَمِثَالُهُ النَّظَرُ إلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا بِعَيْنِ التَّمَنِّي وَالِاشْتِهَاءِ، فَذَلِكَ يُوجِبُ الْحِرْصَ وَالْحَسَدَ وَالتَّقَاطُعَ وَالتَّدَابُرَ، وَهُوَ عَيْنُ

<<  <  ج: ص:  >  >>