الْهَلَاكِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: ١٣١] ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا النَّظَرُ إلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي؛ لِأَنَّك إذَا نَظَرْت إلَيْهِمْ فَإِنْ كُنْت عَلَى مَعْصِيَةٍ فَبِالنَّظَرِ لِمَنْ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا يَهُونُ عَلَيْك مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ، وَيَصْغُرُ فِي عَيْنِك ذَنْبُك فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْهَلَاكِ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْحِيرَةَ.
فَمِثَالُهُ الْمُبْتَدِي يَنْظُرُ إلَى أَهْلِ النِّهَايَاتِ فَيُرِيدُ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي تَعَبُّدِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، وَمَنْ تَنَاهَى فِي ذَلِكَ الشَّأْنِ لَمْ يَكُنْ أَخْذُهُ لِذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا هُمْ يَأْخُذُونَ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ، وَيَقْتَصِرُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَحْصُلَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَالتَّعَبُّدِ أَوْفَرُ نَصِيبٍ، وَتُسْتَغْرَقُ أَوْقَاتُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَهُمْ لَمْ يَشْعُرُوا بِهِ، وَلَمْ يَتْعَبُوا فِيهِ لِرِفْقِهِمْ، وَسِيَاسَتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ، وَمَا كَانَ الْخَرْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ» ، وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلِّمُوا، وَارْفُقُوا» اللَّهُمَّ إلَّا مَنْ نَدَرَ مِنْ الْفُضَلَاءِ فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَذَلِكَ مَحْمُودٌ، وَمَا نَدَرَ لَا يُحْكَمُ بِهِ. نَعَمْ إذَا وَقَعَ لِلْمَرْءِ هَذَا الْحَالُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ التَّشَبُّثُ بِمَا قَدْ ذُكِرَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ بَقِيَ مَعَ نَفْسِهِ فَشَأْنُهُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَحْوَالِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ كَيْفَ كَانَ كَسْبُهُمْ، وَلِمَ اكْتَسَبُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ تَحَيَّرَ فِي طَرِيقِهِ، وَحَيَّرَ مَنْ لَاذَ بِهِ. هَذَا هُوَ عَيْنُ الْحِيرَةِ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ -، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى هُوَ السُّمُوُّ وَالرِّفْعَةُ.
فَمِثَالُهُ الرَّجُلُ الْعَالِمُ يَنْظُرُ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَيَعْمَلُ عَلَى أَنْ يَصِلَ إلَى مَا وَصَلَ إلَيْهِ فَيَجْتَهِدُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَالرَّجُلُ الصَّالِحُ يَنْظُرُ لِمَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنْهُ فَيَجْتَهِدُ فِي التَّعَبُّدِ، وَيَزِيدُ فِي عَمَلِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بِالرِّفْقِ، وَالسِّيَاسَةِ حَتَّى يَلْحَقَ بِمَنْ نَظَرَ إلَيْهِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ الشَّيْخُ إلَيْهِ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ كُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ شَاكِرًا صَابِرًا أَنْ يَنْظُرَ فِي الدِّينِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فَيَقْتَدِيَ بِهِ، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute