فَيَحْمَدَ اللَّهَ الَّذِي فَضَّلَهُ عَلَيْهِ» هَذَا هُوَ السُّمُوُّ، وَالرِّفْعَةُ - اللَّهُمَّ مُنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ، وَلَا تَجْعَلْ حَظَّنَا مِنْهُ الْكَلَامَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ - وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى يُوجِبُ التَّعَبَ لَهُ، وَلِأَتْبَاعِهِ.
فَمِثَالُهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْخَيْرِ، وَأَقَامَهُ اللَّهُ فِي مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ أَهْلِ النِّهَايَاتِ إذَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى اللَّهِ، وَيَتُوبَ يُرِيدُ مِنْ حِينِهِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى الْمَقَامِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ سِيَاسَةٍ تَقَعُ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا تَدْرِيجٍ هَذَا هُوَ التَّعَبُ مَعَ نَفْسِهِ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى طَرِيقِهِ، وَهُمْ لَا يُسَاعِدُونَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ تَبِعَهُ فِي التَّعَبِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إلَى مَقَامٍ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السَّبْقِ، وَالْخَيْرِ اقْتَصَرَ خَيْرُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِمْ مَنْ لَاذَ بِهِمْ، وَبِخِدْمَتِهِمْ أَعْنِي فِي الِاقْتِدَاءِ.
وَأَمَّا الْبَرَكَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهَا غَالِبًا لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ «هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» - نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا مِنْ بَرَكَاتِهِمْ بِمَنِّهِ - وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى مِنْ جِنْسِهِ يُوجِبُ الرَّاحَةَ لَهُ، وَلِأَتْبَاعِهِ. فَمِثَالُهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ الْمُتَمَكِّنُ فِي طَرِيقِهِ إذَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُرِيدُ التَّوْبَةَ، وَالرُّجُوعَ أَخَذَهُ بِاللُّطْفِ، وَالرَّحْمَةِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَسَاسَ بِرَأْيِهِ السَّدِيدِ، وَتَدْبِيرِهِ الرَّشِيدِ فَيَنْظُرُ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ مَا يُصْلِحُهُ، وَمَا هُوَ الْعَوْنُ لَهُ عَلَى مَا أَرَادَ، ثُمَّ يُرَقِّيهِ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى قَدْ يَبْلُغَ فِي أَقَلِّ زَمَانٍ إلَى الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا بِحُسْنِ تَدْبِيرِ هَذَا السَّيِّدِ وَسِيَاسَتِهِ إيَّاهُ.
وَصَاحِبُ هَذَا الْحَالِ هُوَ أَعْظَمُ مَنْ تَقَدَّمَ وَأَفْضَلُهُمْ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ، وَجَلَّ لَمْ يُنْزِلْ الْفُرُوضَ أَوَّلًا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا أَمَرَ بِالْقِتَالِ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا أَمَرَ أَوَّلًا بِالتَّوْحِيدِ لَا غَيْرٍ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِسِيَاسَةِ النَّاسِ، وَاللُّطْفِ بِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: ٢١٥] ، ثُمَّ لَمَّا أَنْ ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقِتَالِ ثُمَّ لَمَّا أَنْ كَثُرَ الْمُؤْمِنُونَ، وَظَهَرَتْ الْكَلِمَةُ نَزَلَتْ الْفُرُوضُ شَيْئًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute