للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة فلا تحدثن في دين الله حدثا برأيك (١) وقال القرطبي في تذكرته: اعلم -رحمك الله- أن في الآخرة صراطين أحدهما لأهل المحشر كلهم ثقيلهم وخفيفهم إلا من يدخل الجنة بغير حساب أو التقطه عنق النار، فإذا خلص من هذا الصراط الأكبر الذي ذكرناه -ولا يخلص منه إلا المؤمنون الذين علم الله سبحانه منهم أن القصاص لا يستنفد حسناتهم- حبسوا على صراط آخر خاص بهم، ولا يرجع إلى النار من هؤلاء أحد بفضل الله؛ لأنهم عبروا الصراط الأول المضروب على متن جهنم، الذي سقط فيه من أوبقه ذنبه، وأربى على الحسنات جرمه، فقد روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقضى لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونُقُّوا أذن الله لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزلة من منزل كان له في الدنيا (٢)). انتهى.

واعلم أن الناس متفاوتون في المرور على الصراط، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطير، ومنهم من يجوزه على مائة عام، ومنهم من يجوزه على ألف عام، ومع ذلك كله لن تحرق النار من رأى ربه عيانا لا يضام في رؤيته، وذلك أنه إذا لم يبق في الموقف إلا المؤمنون والمحسنون والمسلمون والعارفون والصديقون والشهداء والصالحون والمرسلون، تجلى لهم الرب سبحانه، فسجد له جميعهم، فقيل: أهلا بكم، فيمرون على الصراط والناس أفواجا: المرسلون ثم النبيئون ثم الصديقون ثم المحسنون ثم المؤمنون العارفون، ويبقى المسلمون، ومنهم المكبوب بوجهه، ومنهم المحبوس في الأعراف، ومنهم قوم قصروا عن تمام الإيمان، فمنهم من يجوز على الصراط على مائة عام، وآخرون يجوزون على ألف عام، ومع ذلك كله لن تحرق النار من رأى ربه عيانا لا يضام في رؤيته. قاله الغزالي.

وقال المحاسبي: واذكر الجسر بدقته وَهْوَلِه وزلته وعظيم خطره، وقد حل بفؤادك وجله حين رفعت طرفك فنظرت إليه مضروبا على متن جهنم، وجهنم تخفق بأمواجها من تحته، فيا له من


(١) رياض الصالحين، باب ما جاء فيمن لا يوقف على الصراط.
(٢) البخاري، كتاب المظالم، الحديث: ٢٤٤٠ وكتاب الرقائق، الحديث: ٦٣٣٥.