للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْآخَرُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُكْرِي؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِرَاءِ أَوْجَبَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُكْتَرِي، وَالْمُكْتَرِي يَدَّعِي إسْقَاطَ بَعْضِهِ فَلَا يُصَدَّقُ اسْتِصْحَابًا لِحَالِ كَوْنِ الْكِرَاءِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَاسْتِصْحَابًا لِكَوْنِ الدَّارِ صَحِيحَةً.

وَكَذَلِكَ اُخْتُلِفَ عِنْدَنَا عَلَى قَوْلَيْنِ فِيمَنْ قَبَضَ مِنْ رَجُلٍ دَنَانِيرَ فَلَمَّا طَلَبَهُ بِهَا دَافِعُهَا زَعَمَ أَنَّهُ إنَّمَا قَبَضَهَا عَنْ سَلَفٍ كَانَ أَسْلَفَهُ لِدَافِعِهَا، وَقَالَ دَافِعُهَا بَلْ أَنَا أَسْلَفْتُك إيَّاهَا وَمَا كُنْت أَنْتَ أَسْلَفْتَنِي شَيْئًا قَطُّ، فَإِنْ اعْتَبَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مَنْ لَوْ سَكَتَ تُرِكَ وَسُكُوتُهُ وَجَدْنَا هَا هُنَا الدَّافِعَ هُوَ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَكَتَ لَتُرِكَ وَسُكُوتُهُ، وَالْقَابِضُ لَوْ سَكَتَ عَنْ جَوَابِ الطَّالِبِ مَا تُرِكَ وَسُكُوتُهُ، وَإِنْ بَنَيْنَا عَلَى الْأَصْلِ الْآخَرِ وَهُوَ دَعْوَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ أَوْ الْخَفِيِّ، فَإِنَّا إذَا اسْتَصْحَبْنَا كَوْنَ الدَّافِعِ بَرِيءَ الذِّمَّةِ مِنْ سَلَفِ هَذَا الْقَابِضِ صَدَّقْنَا الدَّافِعَ وَجَعَلْنَاهُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ السَّلَفُ الَّذِي الْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا حَالَ الْقَابِضِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ أَيْضًا فِيهِ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ فَلَا يُؤْخَذُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ، جَعَلْنَا الْقَابِضَ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَمَا يَعْرِضُ الْإِشْكَالُ إلَّا عِنْدَ تَصَادُمِ مُقْتَضَى الْأَحْوَالِ، فَيَفْتَقِرُ إلَى تَرْجِيحِ اسْتِصْحَابِ أَحَدِ الْحَالَيْنِ عَلَى الْآخَرِ.

وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ الْقَاضِي أَنَّهُ قَالَ وُلِّيتُ الْقَضَاءَ وَعِنْدِي أَنِّي لَا أَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا يَتَخَاصَمُ إلَيَّ فِيهِ، فَأَوَّلُ مَا ارْتَفَعَ إلَيَّ خَصْمَانِ أَشْكَلَ عَلَى مِنْ أَمْرِهِمَا مَنْ الْمُدَّعِي وَمَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إلَى هَذَا الَّذِي نَبَّهَنَا عَلَيْهِ، وَلِلْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ فِي بَابِ كِرَاءِ الرَّوَاحِلِ وَالدَّوَابِّ فَصْلٌ فِي تَمْيِيزِ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَضَمَّنَهُ فَوَائِدَ تَرَكْنَا ذِكْرَهَا خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ، فَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَمَا أَشْبَهَهَا صَعُبَ عِلْمُ الْقَضَاءِ وَدَقَّ وَتَبَيَّنَ ذَلِكَ بِأَمْثِلَةٍ ذَكَرَهَا الْقَرَافِيُّ وَغَيْرُهُ.

مَسْأَلَةٌ: إذَا بَلَغَ الْيَتِيمُ وَرَشَدَ وَطَلَبَ مِنْ الْوَصِيِّ مَالَهُ الَّذِي لَهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَالْيَتِيمُ فِيمَا يَظْهَرُ أَنَّهُ صَارَ بِسَبَبِ طَلَبِهِ مُدَّعٍ وَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَالْوَصِيُّ الْمَطْلُوبُ هُوَ الْمُدَّعِي لِرَدِّ الْمَالِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَمَرَ الْأَوْصِيَاءَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْأَيْتَامِ إذَا بَلَغُوا وَدَفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، فَلَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى الدَّفْعِ بَلْ عَلَى التَّصَرُّفِ وَالْإِنْفَاقِ خَاصَّةً، فَالْوَصِيُّ مَطْلُوبٌ وَهُوَ مُدَّعٍ وَالْيَتِيمُ طَالِبٌ وَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي دَعْوَى الْإِنْفَاقِ عَلَى الْيَتِيمِ لَا يُقْبَلُ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا مَا أَشْبَهَ الصِّدْقَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>