للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْجِدَ لِكَثْرَةِ النَّاسِ حَتَّى أَشْغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ النَّظَرِ وَالْفَهْمِ، فَلْيَكُنْ لَهُ مَوْضِعٌ فِي الْمَسْجِدِ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ وَقَدْ اتَّخَذَ سَحْنُونٌ بَيْتًا فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فَكَانَ يَقْعُدُ فِيهِ النَّاسُ لِيَحُولَ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَلَامِهِمْ وَكَثْرَةِ لَغَطِهِمْ، وَحَيْثُمَا جَلَسَ الْقَاضِي الْمَأْمُونُ فَهُوَ لَهُ جَائِزٌ، وَذُكِرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إلَى الْقَاضِي تَمِيمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْ لَا يَقْضِيَ فِي الْمَسْجِدِ، وَبِذَلِكَ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ فِيهِ تَضْيِيقٌ عَلَى النَّاسِ، فَمِنْهُمْ الْحَائِضُ وَالْجُنُبُ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ وَفِيهِ امْتِهَانُ الْمَسْجِدِ بِكَثْرَةِ اللَّغَطِ وَاللَّجَاجِ وَمَا يَقَعُ بَيْنَ الْخُصُومِ مِنْ اللَّجَاجِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ بَعْضَ الْعَوَامّ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَرِجْلُهُ فِيهَا بَلَلٌ وَرُبَّمَا كَانَتْ غَيْرَ طَاهِرَةٍ، وَمَفَاسِدُ عَدِيدَةٌ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: ٣٦] وَلَيْسَ فِي الْقَضَاءِ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا إهَانَةُ الْمَسْجِدِ خُصُوصًا الْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ لَا سِيَّمَا مَسْجِدُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ لِرَجُلٍ دَقَّ مِسْمَارًا فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ: لَقَدْ آذَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاحْتِرَامُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاجِبٌ كَمَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَجْلِسَ فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ اللَّاصِقَةِ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَضْيِيقٍ بِالْجُلُوسِ فِي غَيْرِهَا، وَمَا كَانَ مَنْ مَضَى يَجْلِسُونَ إلَّا فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ خَارِجًا مِنْهُ، أَمَّا عِنْدَ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ، يُرِيدُ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَهُوَ الْآنَ الْمَوْضِعُ الْمَعْرُوفُ بِمُصَلَّى الْجَنَائِزِ خَارِجَ بَابِ جِبْرِيلَ، قَالَ وَأَمَّا فِي رَحْبَةِ دَارِ مَرْوَانَ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى رَحْبَةَ الْقَضَاءِ، وَقَدْ جُعِلَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِيضَأَةً وَهِيَ عَلَى بَابِ السَّلَامِ، قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: ٢١] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكُومَةَ وَقَعَتْ عِنْدَهُ فِي مَسْجِدِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.

وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي الْمَسْجِدِ» .

[فَصْلٌ فِي مَسْكَن الْقَاضِي]

فَصْلٌ وَأَمَّا مَسْكَنُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَسْطَ الْبَلَدِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ الْقَصْدُ إلَيْهِ، وَمِمَّا يَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ لَا يُفْرِدُ لِنَفْسِهِ يَوْمًا فِي الْجُمُعَةِ لَا يَقْضِي فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ لِتَعَلُّقِ حُقُوقِ النَّاسِ بِهِ إلَّا لِعُذْرٍ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ الَّتِي تُصْلِحُهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا فِي كُلِّ الْأَيَّامِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ قَضَائِهِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَطَّلِعَ إلَى قَرَابَتِهِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>