فَصْلٌ: وَلَوْ نَظَرَ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ مِنْ بَابٍ فَفَقَأَ عَيْنَهُ صَاحِبُ الدَّارِ ضَمِنَ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى زَجْرِهِ وَدَفْعِهِ بِالْأَخَفِّ، وَلَوْ قَصَدَ زَجْرَهُ بِذَلِكَ فَأَصَابَ عَيْنَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ فَقْأَهَا فَفِي ضَمَانِهِ خِلَافٌ.
[الْفَصْلُ الثَّالِثَ عَشْرَ فِي نَفْيِ الضَّرَرِ وَسَدِّ الذَّرَائِعِ]
ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» .
وَقَالَ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ لَا ضَرَرَ: أَيْ لَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ إضْرَارٌ بِغَيْرِهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ الضِّرَارُ أَنْ تَضُرَّ نَفْسَك لِتَضُرَّ بِذَلِكَ غَيْرَك، فَإِذَا مَنَعَ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ يُصْلِحُ مَالَ نَفْسِهِ بِإِفْسَادِهِ مَالَ غَيْرِهِ؟ وَقَالَ الْمُتَيْطِيُّ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الضَّرَرِ أَنْ يَضُرَّ أَحَدُ الْجَارَيْنِ بِجَارِهِ، وَالضِّرَارُ أَنْ يَضُرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ، لِأَنَّ هَذَا الْبِنَاءُ يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا بِمَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ فِي الْقَتْلِ وَالضِّرَارِ وَالسِّبَابِ وَالْجَلَّادِ وَكَذَلِكَ الضِّرَارُ، فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَعْتَمِدَ أَحَدُهُمَا الْإِضْرَارَ بِصَاحِبِهِ وَعَنْ أَنْ يَقْصِدَ ذَلِكَ جَمِيعًا.
وَقَالَ الْخُشَنِيُّ: الضَّرَرُ مَا يَنْفَعُك وَيَضُرُّ صَاحِبَك، وَالضِّرَارُ مَا يَضُرُّ صَاحِبَك وَلَا يَنْفَعُك، فَيَكُونُ الضَّرَرُ مَا قَصَدَ بِهِ الْإِنْسَانُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ وَمَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَالضِّرَارُ مَا قَصَدَ بِهِ الْإِضْرَارَ بِغَيْرِهِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: فَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُحْدِثَ عَلَى جَارِهِ شَيْئًا يُضَرُّ بِهِ.
مَسْأَلَةٌ: أَمَّا الضَّرَرُ؟ فَمِثْلُ مَا يُحْدِثُ الرَّجُلُ فِي عَرْصَتِهِ مِمَّا يَضُرُّ بِجِيرَانِهِ مِنْ بِنَاءِ حَمَّامٍ أَوْ فُرْنٍ لِلْخُبْزِ أَوْ لِسَبْكِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ كِيرٍ لِعَمَلِ الْحَدِيدِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ: أَنَّ لَهُمْ مَنْعَهُ، وَقَالَهُ مَالِكٌ فِي الدُّخَانِ وَقَالَ: التَّنُّورُ خَفِيفٌ.
تَنْبِيهٌ: قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: إنْ أَمْكَنَ قَطْعُ الدُّخَانِ مَعَ بَقَاءِ الْفُرْنِ قَطَعَ الضَّرَرَ، وَبِذَلِكَ قَضَى سُلَيْمَانُ بْنُ أَسْوَدَ فَجَعَلَ أُنْبُوبًا فِي أَعْلَى الْفُرْنِ يَرْتَقِي فِيهِ الدُّخَانُ وَلَا يَضُرُّ بِالْجَارِ، وَوَجْهُ الضَّرَرِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الدُّخَانُ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ الْفُرْنِ وَالْحَمَّامِ، فَيَدْخُلُ عَلَى الْجِيرَانِ فِي دُورِهِمْ وَيَضُرُّهُمْ، وَهُوَ مِنْ الضَّرَرِ الْكَبِيرِ الْمُسْتَدَامِ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَعَ إحْدَاثِهِ، عَلَى مَنْ يَسْتَضِرُّ بِهِ إذَا شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّهُ مِنْ الضَّرَرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute