للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فَصْلٌ أَدَاء الشَّهَادَةِ الَّتِي اُسْتُحْفِظَهَا]

فَصْلٌ: وَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ الَّتِي اُسْتُحْفِظَهَا، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا وَذَلِكَ فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ اثْنَيْنِ وَإِنْ كَانُوا أَزْيَدَ، فَالْأَدَاءُ عَلَيْهِمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، إلَّا أَنْ لَا يَكْفِيَ الْقَاضِي بِالِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ أَدَّيَا أَوَّلًا لِمَانِعٍ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا أَوْ شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا، فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الثَّالِثِ، وَمَنْ لَا يَتِمُّ الْحُكْمُ إلَّا بِشَهَادَتِهِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُؤَدِّيَ شَهَادَتَهُ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْأَدَاءِ، وَيُحِيلَ الْمَشْهُودَ لَهُ عَلَى يَمِينِهِ مَعَ الشَّاهِدِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ فِي الْحَلِفِ كُلْفَةً، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكْرَهُ الْيَمِينَ وَلَوْ تَحَقَّقَ صِدْقَ حَلِفِهِ، فَإِنْ فَعَلَ الشَّاهِدُ ذَلِكَ فَهُوَ آثِمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: ٢٨٣] الْآيَةَ قَالَهُ ابْنُ رَاشِدٍ.

مَسْأَلَةٌ: قَالُوا: وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ، إذَا كَانَ عَلَى نَحْوِ الْبَرِيدَيْنِ لِقِلَّةِ الْمَشَقَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ أَكْثَرَ مِنْ بَرِيدَيْنِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ، وَتَحْدِيدُ الْبَرِيدَيْنِ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ وُجُودُ الْمَشَقَّةِ وَانْتِفَاؤُهَا، فَإِذَا كَانَتْ الْمَسَافَةُ لَا يَجِبُ مِنْهَا الْأَدَاءُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَكْتُبُ إلَى رَجُلٍ مِنْ ثِقَتِهِ، فَيُوقِعُ هَذَا الشَّاهِدُ شَهَادَتَهُ عِنْدَهُ، وَيَكْتُبُ إلَى الْقَاضِي بِمَا أَدَّى عِنْدَهُ فَيَنْظُرُ فِيهِ.

مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ يَلْزَمُ الشَّاهِدَ الْأَدَاءُ مِنْ نَحْوِ الْبَرِيدَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ شَيْئًا بِسَبَبِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ طَلَبَ عِوَضٍ عَلَى وَاجِبٍ، كَطَلَبِهِ أَخْذَ الْعِوَضِ عَلَى صَلَاةِ نَفْسِهِ، إلَّا فِي الرُّكُوبِ لِعُسْرِ الْمَشْيِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُشْبِهُ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ، وَأَيْضًا فَمَنْعُهُ الرُّكُوبَ لَيْسَتْ لِلشَّاهِدِ، بَلْ هِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ، فَإِنْ رَكِبَ دَابَّةَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَلَهُ دَابَّةٌ، أَوْ أَكَلَ طَعَامَهُ، فَفِي بُطْلَانِ شَهَادَتِهِ قَوْلَانِ، وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّفَقَةِ جَازَ لَهُ قَبُولُهَا. قَالَ سَحْنُونٌ: وَلَوْ أَخْبَرَ الْقَاضِي بِذَلِكَ لَكَانَ حَسَنًا، وَقِيلَ تَبْطُلُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُبَرِّزًا، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ بَعِيدَةً مِثْلَ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَأَكْثَرَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي أَمِينٌ يَشْهَدُ هَذَا الشَّاهِدُ، عِنْدَهُ فَلَا يَضُرُّ الشَّاهِدَ أَكْلُ طَعَامِ الْمَشْهُودِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ بَالٌ وَكَذَلِكَ رُكُوبُ دَابَّتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ احْتَجَبَ السُّلْطَانُ عَنْ فَصْلِ الْحُكْمِ، لَمْ يَضُرَّ الشَّاهِدَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ الْمَشْهُودُ لَهُ مَا أَقَامَ مُنْتَظِرًا لَهُ، إذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، وَأَمَّا حِكْمَتُهَا، فَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا صِيَانَةُ الْحُقُوقِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>