الْأَصَمِّ عَلَى الْأَفْعَالِ، وَنُجِيزُ الشَّهَادَةَ عَلَى الْخَطِّ، وَيُدْرِكُ بِالْعَقْلِ مَعَ حَاسَّةِ الشَّمِّ جَمِيعَ الرَّوَائِحِ الْمَشْمُومَاتِ، فَيُدْرِكُ بِهَا حَالَ الْمُسْكِرِ، فَيُرَاقُ الْخَمْرُ، وَيُحَدُّ شَارِبُهَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الرَّائِحَةِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ. وَيُدْرِكُ بِالْعَقْلِ مَعَ حَاسَّةِ الذَّوْقِ جَمِيعَ الطُّعُومِ الْمَذُوقَاتِ، وَلِذَلِكَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِهِ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي صِفَةِ الْمَبِيعِ، كَالزَّيْتِ الْحُلْوِ وَعَكْسِهِ، وَالْعَسَلِ الشَّتْوِيِّ وَالزَّبِيبِ وَالسَّمْنِ الْمُتَغَيِّرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ ذِكْرُهُ.
وَيُدْرِكُ بِالْعَقْلِ مَعَ حَاسَّةِ اللَّمْسِ جَمِيعَ الْمَلْمُوسَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَنُجِيزُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي صِفَةِ الْمَبِيعِ فِي اللِّينِ وَالْخُشُونَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: حُصُولُ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِالْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ وَالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، وَظُهُورِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدُعَائِهِ إلَى الْإِسْلَامِ، وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَمَعَالِمِ الدِّينِ، وَكَذَلِكَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِمَا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِي بَابِ الْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ وَوِلَايَةِ الْقَاضِي وَعَزْلِهِ وَضَرَرِ الزَّوْجَيْنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَدْ اسْتَوْعَبْت ذَلِكَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ السَّمَاعِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: فَالْعِلْمُ الْمُدْرَكُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ عِلْمُ ضَرُورَةٍ، يَلْزَمُ النَّفْسَ لُزُومًا لَا يُمْكِنُهُ الِانْفِصَالُ مِنْهُ، وَلَا الشَّكُّ فِيهِ.
الرَّابِعُ: الْعِلْمُ الْمُدْرَكُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَالشَّهَادَةُ بِمَا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ جَائِزَةٌ، كَمَا تَجُوزُ بِمَا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ شَهِدَ أَنَّ رَجُلًا قَاءَ خَمْرًا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَتَشْهَدُ أَنَّهُ شَرِبَهَا؟ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ قَاءَهَا، فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذَا التَّعَمُّقُ؟ فَلَا وَرَبِّكَ مَا قَاءَهَا حَتَّى شَرِبَهَا.
وَمِنْ ذَلِكَ شَهَادَةُ الْحُكَمَاءِ فِي قِدَمِ الْعُيُوبِ وَحُدُوثِهَا، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فِي قِدَمِ الضَّرَرِ وَحُدُوثِهِ، وَالشَّهَادَةُ فِي مَعَاقِدِ الْقُمُطِ فِي الْحِيطَانِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى: شَهَادَةُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّبِيِّينَ عَلَى أُمَمِهِمْ بِالْبَلَاغِ، وَشَهَادَةُ الْمُؤْمِنِ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُ حَيٌّ عَالَمٌ قَادِرٌ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، لِعِلْمِهِ بِذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute