للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَمَا تَرَى فِيمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ هَلْ يَجِبُ عَلَى مَنْ بَسَطَ اللَّهُ يَدَهُ فِي الْبَلَدِ وَمَكَّنَهُ مَنْعُهُمْ مِمَّا أَظْهَرُوهُ وَاسْتَتَابَهُمْ وَسَجَنَهُمْ وَضَرَبَهُمْ إنْ لَمْ يَمْتَنِعُوا مِنْ ذَلِكَ؟ .

فَأَجَابَ: إذَا أَظْهَرَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ ذَكَرْت مَذْهَبَهُمْ وَأَعْلَنُوهُ، وَابْتَنَوْا مَسْجِدًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، وَصَلَّوْا الْعِيدَ بِنَاحِيَةٍ عَنْ الْمُسْلِمِينَ بِجَمَاعَةٍ فَهَذَا بَابٌ عَظِيمٌ، يُخْشَى مِنْهُ أَنْ تَشْتَدَّ وَطْأَتُهُمْ وَيُفْسِدُوا عَلَى النَّاسِ دِينَهُمْ، وَيَمِيلُ الْجَهَلَةُ وَمَنْ لَا تَمْيِيزَ عِنْدَهُ إلَيْهِمْ، فَوَاجِبٌ عَلَى مَنْ بَسَطَ اللَّهُ قُدْرَتَهُ أَنْ يَسْتَتِيبَهُمْ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْجِعُوا ضُرِبُوا وَسُجِنُوا وَيُبَالِغُ فِي ضَرْبِهِمْ، فَإِنْ أَقَامُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَتْلِهِمْ.

وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِيمَنْ تَابَ مِنْهُمْ: يُتْرَكُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ جَمَاعَةٌ فِي مَوْضِعٍ يَلْجَئُونَ إلَيْهِ، فَلَا يُتْرَكُ هَذَا وَإِنْ تَابَ، وَيُسْجَنُ حَتَّى تَتَفَرَّقَ جَمَاعَتُهُمْ خِيفَةَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ، وَأَرَى أَنْ يَشْتَهِرَ فَسَادُ مَا يَعْتَقِدُونَ لِئَلَّا يَلْبِسُوا عَلَى أَحَدٍ، وَلِئَلَّا يَسْكُنَ فِي قَلْبِ أَحَدٍ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ شَيْءٌ، وَهُمْ أَشَدُّ فِي كَيْدِ الدِّينِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ أَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، قَدْ عَرَفَ النَّاسُ أَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَلَا يَلْتَبِسُ عَلَى النَّاسِ أَمْرُهُمْ، وَلَا يُخْشَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّ عِنْدَهُمَا حَقًّا، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: نَحْنُ مُسْلِمُونَ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيُخَالِفُونَ مَضْمُونَهُ، وَيَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِمُحَمَّدٍ وَيُحَدِّثُونَ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي تُرْوَى عَنْهُ، وَأَمَّا هَدْمُ الْمَسْجِدِ الَّذِي بَنُوهُ فَحَقٌّ وَجَمِيعُ مَا يَتَأَلَّفُونَ فِيهِ كَذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ الضِّرَارَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: ١٠٨] وَفِي هَدْمِهِ ذِلَّةٌ لِأَهْلِ دِينِهِمْ، وَبَقَاؤُهُ رُكْنٌ لَهُمْ وَمَلْجَأٌ، وَهَدْمُهُ يُؤَسِّسُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَالْعَامَّةِ فَسَادَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ فُعِلَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ، يَسْتَيْقِنُوا أَنَّ ذَلِكَ لِفَسَادِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَاجْتَنِبُوا قَوْمَهُمْ، وَلِلْفِعْلِ فِي النُّفُوسِ تَأْثِيرٌ وَقَدْ «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَصْحَابِهِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي الْعُمْرَةِ الَّتِي صُدَّ عَنْهَا، فَأَمَرَهُمْ بِالْحَلَاقِ فَتَرَدَّدُوا، فَلَمَّا نَحَرَ هَدْيَهُ وَأَمَرَ حَالِقَهُ فَحَلَقَ، بَادَرُوا لِمِثْلِ ذَلِكَ» ، وَلَمْ يَكُونُوا لِيَشُكُّوا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهَ أَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ بِرَحْمَتِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>