وَمَا أَشْبَهَهَا إلَّا أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ بِهَا يُوعَظُ وَيُؤَثَّمُ، فَإِنْ تَطَوَّعَ بِإِمْضَائِهَا كَانَ ذَلِكَ الَّذِي يُسْتَحَبُّ لَهُ، وَإِنْ شَحَّ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ فِيهَا بِشَيْءٍ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ مِثْلَ هَذَا فِي كِتَابِ الْهِبَاتِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ لِلْمَسَاكِينِ، أَوْ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَلَا يَجْبُرُ السُّلْطَانُ عَلَى إخْرَاجِهَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَالِفَ إنَّمَا قَصَدَ الِامْتِنَاعُ مِمَّا حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ لَا إلَى إخْرَاجِ الصَّدَقَةِ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ لَكِنَّهُ إذَا فَعَلَ الَّذِي حَلَفَ بِالصَّدَقَةِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، فَقَدْ اخْتَارَ إخْرَاجَ الصَّدَقَةِ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ فَذَلِكَ قَالَ يُوعَظُ وَيُؤَثَّمُ، وَإِنَّمَا كَانَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالصَّدَقَةِ، وَإِنْ كَانَ آثِمًا فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ إخْرَاجِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَارِهٌ فَيَذْهَبُ مِلْكُهُ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ تَصِيرُ إلَيْهِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُحْكَمُ عَلَى مَنْ نَذَرَ نَذْرًا بِالْوَفَاءِ بِهِ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ لِابْنِ دِينَارٍ فِيمَنْ شَرَطَ لِامْرَأَتِهِ إنْ تَسَرَّى عَلَيْهَا فَالسُّرِّيَّةُ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا أَنَّ الصَّدَقَةَ بِالشَّرْطِ تَلْزَمُهُ، وَأَنَّهُ إنْ أَعْتَقَهَا بَعْدَ أَنْ اتَّخَذَهَا لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ وَكَانَتْ لَهَا صَدَقَةً بِالشَّرْطِ وَلِابْنِ نَافِعٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَيْضًا فِيمَنْ بَاعَ سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ وَقَالَ إنْ خَاصَمْتُك فَهِيَ صَدَقَةٌ عَلَيْك فَخَاصَمَهُ فِيهَا أَنَّ الصَّدَقَةَ تَلْزَمُهُ، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ إنَّ الصَّدَقَةَ تَلْزَمُهُ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِهَا عَلَيْهِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ دِينَارٍ خِلَافَ الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ الصَّدَقَاتِ الْمُبَتَّلَةِ لِلَّهِ عَلَى غَيْرِ يَمِينٍ فَيُحْكَمُ بِهَا إنْ كَانَتْ لِمُعَيَّنٍ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْمَسَاكِينِ، أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِي ذَلِكَ فِي الْمُدَوَّنَةِ اهـ.
قُلْت: قَوْلُهُ فِي النَّذْرِ لَا يُحْكَمُ بِهِ يُرِيدُ إذَا كَانَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ لِمُعَيَّنٍ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ النَّذْرِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يُقْضَى بِهِ وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ الْمَشْهُورَ فِيمَا كَانَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْمَسَاكِينِ أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ فِي كِتَابِ الْهِبَاتِ مِنْ النَّوَادِرِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَمَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَالٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ عَلَى الْمَسَاكِينِ، أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ حَلَفَ بِحَبْسِ دَارِهِ، أَوْ بِحُمْلَانِ خَيْلِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ بِإِبِلِهِ بُدْنًا، أَوْ بَقَرِهِ، أَوْ غَنَمِهِ هَدْيًا ثُمًّ حَنِثَ أَقَرَّ بِذَلِكَ، أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَا يُكْرَهُ عَلَى ذَلِكَ اهـ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْهِبَةَ تَلْزَمُ بِالْقَوْلِ مَا نَصَّهُ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ ضَرْبٌ لَا يُقْضَى بِهِ وَضَرْبٌ يُقْضَى بِهِ، فَأَمَّا مَا لَا يُقْضَى بِهِ فَمَا كَانَ مِنْ صَدَقَةٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ حَبْسٍ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ عَلَى مُعَيَّنَيْنِ، أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنَيْنِ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَغَيْرُهُمَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْبِرَّ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ اللُّجَجَ وَتَحْقِيقَ مَا نَازَعَ فِيهِ فَيُؤْمَرُ بِهِ وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِهِ وَمِثْلُهُ مَا رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ كُلُّ جَارِيَةٍ أَتَسَرَّى بِهَا عَلَيْك فَهِيَ صَدَقَةٌ عَلَيْك، وَإِنْ وَطِئْت جَارِيَتِي هَذِهِ فَهِيَ صَدَقَةٌ عَلَيْك فَتَسَرَّى أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ قَالَ مُحَمَّدٌ يُرِيد أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِهَا، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ يَمِينٍ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى إخْرَاجِهَا إذَا كَانَتْ لِمُعَيَّنٍ، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute