فَإِنَّ عَامَّةَ الْأَقْوَالِ الْجَارِيَةِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ إنَّمَا تَدُورُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالْهَوَى لَا يَعْدُوهُمَا
فَإِذَا عَرَضَ الْعَامِّيُّ نَازِلَتَهُ عَلَى الْمُفْتِي فَهُوَ قَائِلٌ لَهُ أَخْرِجْنِي مِنْ هَوَايَ وَدُلَّنِي عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ فَلَا يُمْكِنُ وَالْحَالُ هَذِهِ أَنْ يَقُولَ لَهُ فِي مَسْأَلَتِكَ قَوْلَانِ فَاخْتَرْ لِشَهْوَتِكَ أَيَّهُمَا شِئْت فَإِنَّ مَعْنَى هَذَا تَحْكِيمُ الْهَوَى دُونَ الشَّرْعِ وَلَا يُنَجِّيهِ مِنْ هَذَا أَنْ يَقُولَ مَا فَعَلْت إلَّا بِقَوْلِ عَالِمٍ لِأَنَّهُ حِيلَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْحِيَلِ الَّتِي نَصَبَتْهَا النَّاسُ وِقَايَةً عَنْ الْقِيلِ وَالْقَالِ وَشَبَكَةً لِنَيْلِ الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَتَسْلِيطٌ مِنْ الْمُفْتِي لِلْعَامِّيِّ عَلَى تَحْكِيمِ الْهَوَى بَعْدَ أَنْ طَلَبَ مِنْهُ إخْرَاجَهُ عَنْ هَوَاهُ وَرَمَى فِي عَمَايَةٍ وَجَهْلٍ بِالشَّرِيعَةِ وَغَشَّ فِي النَّصِيحَةِ انْتَهَى وَقَالَ أَبُو عَمْرو بْنُ الصَّلَاحِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْهُمْ مُخْطِئٌ وَمُصِيبٌ فَعَلَيْكَ بِالِاجْتِهَادِ وَقَالَ لَيْسَ كُلُّ مَا قَالَ نَاسٌ فِيهِ تَوْسِعَةٌ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ لَا تَوْسِعَةَ فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى ظُهُورِ الرَّاجِحِ وَفِيهِ تَوْسِعَةٌ بِمَعْنَى أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلِاجْتِهَادِ مَجَالًا فِيمَا بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يُقْطَعُ بِهِ بِقَوْلٍ يَتَعَيَّنُ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِي خِلَافِهِ
وَفِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ الْمُقَلِّدَ إذَا وَجَدَ الْمَشْهُورَ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْهُ فَإِنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ وَالْقَوْلَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ التَّشَهِّي وَالْحُكْمُ بِمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ فَإِنْ قُلْت ظَاهِرُ قَوْلِهِ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ الْمُقَلِّدَ إذَا وَجَدَ الْمَشْهُورَ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ فِي طُرُقِ التَّرْجِيحِ وَلَهُ قُوَّةٌ عَلَى إدْرَاكِ مَدَارِكِهَا أَمْ لَا وَأَنْتَ قَدْ جَعَلْت مَوْرِدَ الْحُكْمِ فِي الْمُقَلِّدِ الْحَائِزِ لِطُرُقِ التَّرْجِيحِ الْمُدْرِكِ لِمَدَارِكِ الرَّاجِحِ مِنْ الْمَرْجُوحِ.
قُلْت قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ أَوْ الْقَوْلَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ التَّشَهِّي وَالْحُكْمُ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً وَيُشِيرُ إشَارَةً لَائِحَةً أَنَّ فَرْضَ الْكَلَامِ عِنْدَهُ فِيمَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلنَّظَرِ وَالتَّرْجِيحِ فَيَحْتَمِلُ إذْ ذَاكَ قَوْلُهُ إذَا وَجَدَ الْمَشْهُورَ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ بِمَا قَوَّى دَلِيلَهُ فِي نَظَرِهِ وَتَرَجَّحَ عِنْدَهُ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ التَّرْجِيحِ فِي وِرْدِهِ وَصَدْرِهِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَجَدَ الْمَشْهُورَ مِمَّا شَهَرَهُ غَيْرُهُ وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْهِرُ هُوَ الْمُجْتَهِدُ الْمُسْتَنْبَطُ لِلْحُكْمِ نَفْسِهِ فَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُهُ فِي التَّشْهِيرِ كَمَا قَلَّدَهُ فِي نَفْسِ الْقَوْلِ وَإِنْ كَانَ تَشْهِيرُ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِ لَا لِلْمُجْتَهِدِ نَفْسِهِ بَلْ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ يَقْتَدُونَ بِهِ فِي مَذْهَبِهِ وَيُشْهِرُونَ مِنْ أَقْوَالِهِ الَّتِي حَفِظُوهَا عَنْهُ مَا قَوِيَ دَلِيلَهُ عِنْدَ هَذَا الْمُشْهِرِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى هَذَا الْمُقَلِّدِ الْمُتَأَخِّرِ تَقْلِيدُ هَذَا الَّذِي سَبَقَهُ بِالنَّظَرِ وَالتَّفْتِيشِ فِي أَقْوَالِ الْإِمَامِ الَّذِي اشْتَرَكَ مَعَهُ فِي تَقْلِيدِهِ فِي الْأَحْكَامِ أَوْ يَكُونُ هَذَا الْمُتَأَخِّرُ لَمَّا كَانَتْ لَهُ مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى التَّرْجِيحِ فِي أَقْوَالِ مُقَلِّدِهِ وَيُمَيِّزُ بِهَا الْمَشْهُورَ وَالصَّحِيحَ صَارَ هَذَا الْمُتَأَخِّرُ اللَّاحِقُ مُسَاوِيًا لِلْمُتَقَدِّمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute