عَقْدَ الشِّرَاءِ فَأُخِذَ عَلَيْهِمْ فِيهِ فَأَظْهَرُوا عَقْدَ الْكِرَاءِ وَتَعَلَّقُوا بِهِ إلَى آخِرِ مُدَّتِهِ أَوْ مَوْتِ الْمُكْرِي فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْكِرَاءُ لِهَذِهِ الْمُدَّةِ أَمْ لَا وَهَلْ تَحْبِيسُهُ عَلَى فُقَرَاءِ بَنِي إِسْحَاقَ كَالتَّحْبِيسِ عَلَى مُعَيَّنِينَ أَوْ كَالْحَبْسِ عَلَى الْمَسَاجِدِ.
فَأَجَابَ إنْ وَقَعَ الْكِرَاءُ لِهَذِهِ الْمُدَّةِ عَلَى النَّقْدِ فُسِخَ وَفِي جَوَازِهِ عَلَى غَيْرِ النَّقْدِ قَوْلَانِ: الصَّحِيحُ مِنْهُمَا عِنْدِي الْمَنْعُ وَهَذَا فِيمَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْكِرَاءُ بِمَوْتِ الْمُكْرِي كَمَسْأَلَتِك، وَأَمَّا الْحَبْسُ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَالْمَسَاكِينِ وَشَبَهِهِمَا فَلَا يُكْرِيهِ النَّاظِرُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ إنْ كَانَ أَرْضًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ عَامٍ وَاحِدٍ إنْ كَانَ دَارًا، وَهُوَ عَمَلُ النَّاسِ وَمَضَى عَلَيْهِ عَمَلُ الْقُضَاةِ فَإِنْ أَكْرَاهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مَضَى إنْ كَانَ نَظَرًا عَلَى مَذْهَبِ الْقَاسِمِ وَرِوَايَتُهُ، وَلَا يَنْفَسِخُ اهـ.
قُلْت وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ مِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ وَذَكَرَ أَنَّهُ نَزَلَتْ بِبَطْلَيُوسَ اكْتَرَى أَرْضًا مُحْبَسَةً خَمْسِينَ عَامًا، ثُمَّ قَامَ النِّسْوَةُ الْمُكْرِيَاتُ الْمُحْبَسُ عَلَيْهِنَّ عَلَى الْغَارِسِ يَطْلُبْنَ فَسْخَ الْكِرَاءِ بَعْدَ سَبْعَةِ أَعْوَامٍ وَامْتَنَعَ الْمُكْتَرِي مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَبُو شَاكِرٍ أَحَدُ فُقَهَاءِ تِلْكَ الْبَلَدِ فَكَتَبَ إلَيَّ بِهَا أَبُو شَاكِرٍ وَقَاضِيهَا ابْنُ خَالِصٍ وَكَتَبْت جَوَابَهَا لِأَبِي شَاكِرٍ وَكَانَ أَنْكَرَ عَلَيَّ فَسْخَ الْكِرَاءِ فَأَجَبْته: مِنْ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ فِي الْفَتْوَى فِي الْأَحْكَامِ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ فِي الْمُدَوَّنَةِ، ثُمَّ عَلَى مَا وَقَعَ فِيهَا لِغَيْرِهِ هَذَا الَّذِي سَمِعْنَاهُ قَدِيمًا فِي مَجَالِسِ شُيُوخِنَا الَّذِينَ تَفَقَّهْنَا عِنْدَهُمْ وَعِلَّةُ ذَلِكَ اعْتِمَادُ النَّاسِ فِي الْمَغْرِبِ عَلَيْهِمَا حَتَّى أَنِسَتْ نُفُوسُهُمْ وَأَلِفَتْ مَعَانِيَهَا وَتَقَرَّرَتْ عِنْدَهُمْ صِحَّةُ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا وَمَا سَبَقَ لِلنَّفْسِ أَلِفَتْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَسَائِلَ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ وَالْعُتْبِيَّةِ وَالْوَاضِحَةِ وَالْوَقَارُ مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كِرَاءُ الْحَبْسِ إلَّا إلَى سَنَةٍ وَنَحْوِهَا، وَلَا بَأْسَ بِكِرَاءِ الدُّورِ السَّنَةَ وَفَوْقَ ذَلِكَ إلَى عِشْرِينَ سَنَةٍ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ قَالَ وَمَا أَجَابَ بِهِ ابْنُ رِزْقٍ مِنْ جَوَازِ عَقْدِ الْكِرَاءِ سَبْعِينَ عَامًا فَيُبْطِلُهُ مَا تَقَدَّمَ، وَلَا سَمِعْته، وَلَا رَأَيْته وَإِنَّمَا حُكِيَ لِي عَنْ الْمَنْصُورِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ أَنَّهُ اكْتَرَى مَوْضِعًا حَبْسًا إلَى سَبْعِينَ عَامًا وَهَذَا لَوْ صَحَّ نَقْلُهُ فَلَا يَصِحُّ أَصْلُهُ، وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ.
وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْعَطَّارِ الَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ قُبَالَاتِ أَرْضِ الْأَحْبَاسِ لِأَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ، وَهَذَا الَّذِي شَاهَدْنَاهُ بِقُرْطُبَةَ وَدُورِ الْأَحْبَاسِ وَالْحَوَانِيتِ إنَّمَا تُكْرَى عَامًا فَعَامًا وَشَاهَدْنَا ذَلِكَ مِنْ قُضَاتِهَا بِمَحْضَرِ فُقَهَائِهَا مِرَارًا وَقَدْ رَأَيْت مَسْأَلَةً نَزَلَتْ بِقَاضِي الْجَمَاعَةِ حَفِيدِ ابْنِ زَرِبٍ أَقْبَلَ بَيَاضًا وَفِيهَا سَوَادٌ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَذَكَرَ أَنَّهُ شَاوَرَ الْفُقَهَاءَ فَاخْتَلَفُوا فِي نَقْضِهَا لِطُولِ مُدَّةِ الْكِرَاءِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَفْسَخُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَمْضِي وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ الْبُرْزُلِيُّ وَالْوَاقِعُ عِنْدَنَا الْيَوْمَ بِتُونُسَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي أَحْبَاسِ قِرْطَاجَنَّةَ بَقَاءُ الْمُدَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَرَأَيْت كَذَا فِي قَاعَةِ دَارٍ خَمْسِينَ سَنَةً مِنْ الْحَبْسِ وَهَذَا نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ لِأَبِي شَاكِرٍ وَمَنْصُورِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا مَنْ يَتَقَبَّلُهَا إلَّا عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ فَاغْتَفَرُوا ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ كَالْتِزَامِ الْجَزَاءِ عَلَى أَرْضِ الْجَزَاءِ أَبَدًا لِضَرُورَةِ حَاجَةِ بَيْتِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ عَنْ ثَمَنِ الْأَرْضِ لِكَوْنِهِ تَابِعًا لِأَصْلٍ جَائِزٍ لِلضَّرُورَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.
كَلَامُ الْبُرْزُلِيِّ وَنَقَلَ ابْنُ سَلْمُونٍ قَوْلَ ابْنِ رُشْدٍ، وَأَمَّا الْأَحْبَاسُ إلَخْ وَنَقَلَ ابْنُ الْحَطَّابِ عَنْ الْبُرْزُلِيِّ جَوَابَ ابْنِ رُشْدٍ السَّابِقَ بِتَمَامِهِ، ثُمَّ قَالَ وَقَالَ فِي الشَّامِلِ وَجَازَ كِرَاءُ بُقْعَةٍ مِنْ أَرْضٍ مُحْبَسَةٍ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً لِتُبْنَى دَارًا وَعُمِلَ بِهَا اهـ.
قَالَ الْخَرَشِيُّ، ثُمَّ إنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ الْوَاقِفُ مُدَّةً وَإِلَّا عُمِلَ عَلَى مَا شَرَطَهُ وَبِمَا إذَا لَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْوَقْفِ كَمَا وَقَعَ فِي زَمَنِ الْقَاضِي ابْنِ بَادِيسَ بِالْقَيْرَوَانِ أَنَّ دَارًا حَبْسًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute