للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ غَيْرَهُ عَلَى حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَا أَنْ يُفْتِيَ فِي دِينِ اللَّهِ أَحَدًا مِنْ الْأَنَامِ وَظَاهِرُهُ وَإِنْ أَفْتَى بِالْمَشْهُورِ فَكَيْفَ بِالشَّاذِّ الَّذِي سَأَلْت عَنْهُ، وَقَدْ أَوْجَبَ بَعْضُ مَنْ تَقَدَّمَ زَمَانَنَا هَذَا مِنْ الْمَشَايِخِ عُقُوبَةَ الْمُفْتِي الْمُقَلِّدِ إنْ خَالَفَ الْمَشْهُورَ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ فِي النَّهْيِ عَنْ الْعَوْدِ وَعَلَّلَهُ فِي تَعَلُّقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ فِي الْعَمَلِ بِالْمَشْهُورِ

وَقَالَ وَإِنْ ارْتَكَبْتَ الشَّاذَّ فِي الْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ أَجْنَبِيٍّ فَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَتْ وَظِيفَتُك سَرْدَ الرِّوَايَاتِ وَتَعْيِينَ الْمَشْهُورِ فَحَمْلُك السَّائِلَ عَلَى الشَّاذِّ غِشٌّ لَهُ فِي أَمْرٍ دِينِيٍّ فَعُقُوبَتُهُ أَكْثَرُ وَأَوْجَبُ مِنْ عُقُوبَةِ النَّاسِ فِي الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ قَالَ وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَنْ تَجُوزُ لَهُ الْفُتْيَا مِنْ أَهْلِ التَّقْلِيدِ، وَقَدْ اقْشَعَرَّتْ الْبِلَادُ مِنْهُ انْتَهَى، وَهَذَا كُلُّهُ لَا مَزِيدَ فِيهِ عَلَى مَا اُسْتُفِيدَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ النُّقُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ إلَّا مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَالْأَدَبِ الْوَجِيعِ وَلِلْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمَسْأَلَةِ إمْلَاءٌ عَرِيضٌ لَوْلَا الْإِطَالَةُ وَالْخُرُوجُ عَنْ غَرَضِ الِاخْتِصَارِ لَجَلَبْنَاهُ وَأَمَّا قَوْلُكُمْ وَالْأَخْذُ بِالرُّخَصِ مَحْبُوبٌ وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ فِي الرُّخَصِ الْمَعْهُودَةِ الْعَامَّةِ كَالْقَصْرِ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْفِطْرِ فِيهِ وَالْجَمْعِ فِي السَّفَرِ وَلَيْلَةِ الْمَطَرِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا تَتَبُّعُ أَخَفِّ الْمَذَاهِبِ وَأَوْفَقِهَا لِطَبْعِ الصَّائِرِ إلَيْهَا وَالذَّاهِبِ فَمِمَّا لَا يَجُوزُ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مَحْبُوبًا مَطْلُوبًا قَالَهُ الرِّيَاشِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ بَيَانُ الْعِلْمِ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ إنْ أَخَذْت بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيك الشَّرُّ كُلُّهُ قَالَ أَبُو عُمَرَ هَذَا إجْمَاعٌ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ أَيْضًا الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ تَتَبُّعَ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فِسْقٌ لَا يَحِلُّ.

وَعَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ مَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ بَعْضِ الْأَمْصَارِ لَمْ أَجْرَحْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَاذًّا مَا لَمْ يَأْخُذْ بِكُلِّ مَا وَافَقَهُ مِنْ كُلِّ قَائِلٍ وَعَلَّلَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَأَبُو عُمَرَ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْعِ تَتَبُّعِ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ بِأَنَّهُ مُؤَدٍّ إلَى إسْقَاطِ التَّكْلِيفِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا صَارَ الْمُكَلَّفُ فِي كُلِّ نَازِلَةٍ عَنَّتْ لَهُ يَتَتَبَّعُ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ وَكُلَّ قَوْلٍ وَافَقَ فِيهَا هَوَاهُ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ التَّقْوَى وَتَمَادَى فِي مُتَابَعَةِ الْهَوَى وَنَقَضَ مَا أَبْرَمَهُ الشَّرْعُ وَأَخَّرَ مَا قَدَّمَهُ قَالَ وَقَدْ أَدَّى إغْفَالُ هَذَا الْأَصْلِ إلَى أَنْ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ لَا يُفْتِي قَرِيبَهُ أَوْ صَدِيقَهُ بِمَا يُفْتِي بِهِ غَيْرَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ اتِّبَاعًا لِغَرَضِهِ وَشَهْوَتِهِ أَوْ لِغَرَضِ ذَلِكَ الْقَرِيبِ وَذَلِكَ الصَّدِيقِ، وَلَقَدْ وُجِدَ هَذَا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ فَضْلًا عَنْ زَمَانِنَا، وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ إنْ أَخَذْت بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيك الشَّرُّ كُلُّهُ قَالَ فَمِنْ هُنَا قَالُوا زَلَّةُ الْعَالِمِ مَضْرُوبٌ بِهَا الطَّبْلُ انْتَهَى.

قَالَ أَبُو عُمَرَ شَبَّهَ الْعُلَمَاءُ زَلَّةَ الْعَالِمِ بِانْكِسَارِ السَّفِينَةِ لِأَنَّهَا إذَا غَرِقَتْ غَرِقَ مَعَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيْلٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>