فأما أن العقلَ الذي هو عقلُ الأمور العامَّة التي أفرادُها موجودةٌ في الخارج يحصلُ بغير حِسٍّ، فهذا لا يتصوَّر, وإذا رجع الإنسانُ إلى نفسه وجد ذلك, وأنه لا يعقِلُ (١) مستغنيًا عن الحسِّ الباطن والظاهر لكلياتٍ مقدرةٍ في نفسه، مثل الواحد والاثنين، والمستقيم والمنحني والمثلث والمربع، والواجب والممكن والممتنع، ونحو ذلك مما يفرضه هو ويقدِّره.
فأما العلمُ بمطابقة ذلك المقدَّر للموجود في الخارج, والعلمُ بالحقائق الخارجية، فلا بدَّ فيه من الحِسِّ الباطن أو الظاهر, فإذا اجتمع الحسُّ والعقلُ كاجتماع البصر والعقل, أمكن أن يدرك الحقائقَ الموجودةَ المعيَّنة ويَعْقِلَ حكمَها العامَّ الذي يندرجُ فيه أمثالها وأضدادُها، ويعلمَ الجمعَ والفَرْق. وهذا هو اعتبارُ العقل وقياسُه.
وإذا انفرد الإحساسُ الباطنُ أو الظاهر أدرك وجودَ الموجود المعيَّن, وإذا انفرد المعقولُ المجرَّدُ عَلِمَ الكلياتِ المقدَّرة فيه التي قد يكونُ لها وجودٌ في الخارج وقد لا يكون، ولا يعلمُ وجود أعيانها وعدم وجود أعيانها إلا بإحساسٍ باطنٍ أو ظاهر.
فإنك إذا قلت: موجودُ المئة عُشْرُ الألف لم تحكُم على شيءٍ في الخارج، بل لو لم يكن في العالم ما يعدُّ بالمئة والألف لكنتَ عالمًا بأن المئة المقدَّرة في عقلك عُشر الألف, ولكن إذا أحسستَ بالرجال والدوابِّ والذهب والفضة، وأحسستَ بحِسِّك أو بخبرِ مَن أحسَّ أن هناك مئة رجلٍ أو
(١). الأصل: «وجد ذلك أنه يعقل». (ف): «وجد أنه لا يعقل ذلك».