[الخطبة الثانية في انهماك الناس في الدنيا وتحصيل المال]
الخطبة الثانية
في انهماك الناس في الدنيا وتحصيل المال الحمد لله الذي خلق للعباد دارين دار عمل واكتساب ودار جزاء وثواب، فدار العمل والاكتساب هي الحياة الدنيا جعلها الله عبورا للعباد ومزرعة يحصدون ما زرعوا فيها يوم يقوم الأشهاد وحينئذ يتبين ربح التجارة من الكساد، وأما دار الجزاء والثواب فهي الدار الآخرة والحياة الباقية إما في جنة وإما في نار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وله العزة والاقتدار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى المختار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان آناء الليل والنهار وسلم تسليما.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا ما لأجله خلقتم وماذا تصيرون إليه إذا أنتم متم، فكروا في هذه الدنيا وأحوالها وتقلباتها تجدوها غرورا وباطلا ولهوا ولعبا ولحظات تمر سريعا وتمضي جميعا، قيسوا ما يستقبل منها بما مضى واعتبروا يا أولي الأبصار.
أليس فينا معشر الحاضرين من عمر طويلا ومن كان صغيرا وكلنا بالنسبة إلى ما مضى واحد، فكل ما مضى من زمن طويل فكأنه أحلام نائم أو خيال هائم. والإنسان في اللحظة التي هو فيها هذه، أيها الناس، حقيقة الدنيا فكيف يليق بالعاقل أن تكون أكبر همه؟ كيف يليق به أن يقدمها على الآخرة؟ كيف يليق به أن يشغل قلبه وفكره وجسمه في الحصول عليها وهو عن الآخرة في إعراض؟ إن كثيرا من الناس قد انهمك في الدنيا حتى صارت أكبر همه ومبلغ علمه، يجمع المال لا يبالي من أين جمعه ويسرف في إنفاقه على وجه غير مشروع لا يبالي كيف أنفقه، كأنه خلق في هذه الدنيا ليخلد ويتناول ما يشاء من شهواته ولو كان في غضب الله، إن باع أو اشترى فكذب وخداع وغش، وإن صنع شيئا لأحد لم يؤد فيه الأمانة، وإن صار في وظيفة أضاعها وأهملها يتقاضى راتبها ولا يؤدي عملها كاملا، وجدير بمن يأكل الأموال بمثل هذه الأمور أن يسمى السارق الخفي.
أيها الناس: إن اتجاهات الناس وأغراضهم مختلفة، فمنهم من يريد المال ويسعى لتحصيله ولو بالطرق المحرمة، ومنهم من يريد الجاه والرئاسة والعلو على الخلق، ومنهم من يريد السيطرة على الناس بحق أو بغير حق، ومنهم من يريد اللهو بالأغاني والألعاب فيصد عن ذكر الله وعن الصلاة إلى غير ذلك من الأغراض الدنيوية، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مبينا حال هؤلاء وأمثالهم: