في وداع العام الحمد لله الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب والحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا من ذوي الألباب وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد ومنه المبتدأ وإليه المنتهى والمآب وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من تعبد لله وأناب صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب وسلم تسليما.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتبصروا في هذه الأيام والليال فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة حتى تنتهوا إلى آخر سفركم وكل يوم يمر بكم فإنه يبعدكم من الدنيا ويقربكم من الآخرة فطوبى لعبد اغتنم فرصها بما يقرب إلى مولاه طوبى لعبد شغلها بالطاعات وتجنب العصيان طوبى لعبد اتعظ بما فيها من تقلبات الأمور والأحوال طوبى لعبد استدل بتقلباتها على ما لله فيها من الحكم البالغة والأسرار: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}[النور: ٤٤] إخواني: ألم تروا إلى هذه الشمس كل يوم تطلع من مشرقها وتغرب في مغربها وفي ذلك أعظم الاعتبار فإن طلوعها ثم غيوبها إيذان بأن هذه الدنيا ليست دار قرار وإنما هي طلوع ثم غيوب وزوال.
ألم تروا إلى هذه الشهور تهل فيها الأهلة صغيرة كما يولد الأطفال ثم تنمو رويدا رويدا كما تنمو الأجسام حتى إذا تكامل نموها أخذت بالنقص والاضمحلال وهكذا عمر الإنسان سواء فاعتبروا يا أولي الأبصار.
ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدد عاما بعد عام فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد ثم تمر به الأيام سراعا فينصرم العام كلمح البصر فإذا هو في آخر العام وهكذا عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد فإذا به قد هجم عليه الموت:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق: ١٩] ربما يؤمل الإنسان بطول العمر ويتسلى بالأماني فإذا بحبل الأمل قد انصرم وببناء الأماني قد انهدم.
أيها الناس: إنكم في هذه الأيام تودعون عاما ماضيا شهيدا وتستقبلون عاما مقبلا جديدا فليت شعري ماذا أودعتم في العام الماضي وماذا تستقبلون به العام الجديد فليحاسب العاقل نفسه ولينظر في أمره فإن كان قد فرط في شيء من الواجبات فليتب إلى الله وليتدارك