للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعندي في هذا نظر. فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحافظ على الرواتب فلا يخلّ بها، بل: "كان عمله ديمة" (١). وكان يقول: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ" (٢). وكان يقضي ما فاته من النوافل المرتبة، كالركعتين اللتين بعد الظهر، قضاهما بعد العصر لما شُغِل عنهما.

وما ذكره ابن تيمية منتقض بقراءة سورة بعد الفاتحة. لم يبين - صلى الله عليه وسلم - عدم وجوبها قولاً، ولا نُقِل أنه تركها ولو مرة واحدة فيما نعلم. وأما حديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (٣) فيدل على الركنية، ولا يدل على جواز ترك ما عدا الفاتحة. ومع ذلك، فإن قراءة سورةٍ بعد الفاتحة ليس بواجب، بلا خلاف (٤). ومثل السورة كثير غيرها من أفعال الصلاة المستحبة، كالجهر في الجهرية، وبعض هيئات الركوع والسجود، ورفع اليدين، وغير ذلك. ولم يرتَضِ الأنصاري شارحُ مسلّم الثبوت القولَ بأن المواظبة مع عدم الترك دليل الوجوب عند الحنفية. ونقض ذلك بما هو معلوم عندهم من سنية صلاة الجماعة، والأذان، والإقامة، وصلاة الكسوف، والخطبة الثانية في الجمعة، والترتيب والموالاة في الوضوء، والمضمضة، والاستنشاق، وغير ذلك مما ثبتت فيه المواظبة من غير ترك، مع عدم تبيين سنّيّتها، بل ثبت عدم الترك. فيعلم أن المواظبة ليست دليل الوجوب عندهم (٥).

وأما قول ابن تيمية: "إنه لو كان غير واجب لتركه ولو مرة، أو بين عدم وجوبه بالقول" فإن هذا يلزم لو كان هناك ما يجعل هذا النوع من الفعل دالاًّ على الوجوب، وفيه الخلاف. كيف وقد قال الكثيرون ومنهم الظاهرية والحنفية "إن الوجوب لا يؤخذ من الفعل" فيكفي ذلك للدلالة على عدم الوجوب، فلا يلزم البيان بعد ذلك بالقول ولا بالفعل. والله أعلى وأعلم.


(١) رواه البخاري: كتاب الصوم ب ٦٤ ومسلم ٦/ ٧٣
(٢) البخاري ٤/ ٢٣٥ ومسلم.
(٣) رواه الشيخان (الفتح الكبير).
(٤) ابن قدامة: المغني ١/ ٤٩١
(٥) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت ٢/ ١٨٠

<<  <  ج: ص:  >  >>