للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والخلاف فيه ناشئ عن تعارض الأصل والظاهر كما تقدم. إذ الظاهر أن المقصود به التشريع، لصلته بالعبادة، والأصل عدم هذا القصد. والذي نرجحه أنه لا يدل على الاستحباب، وإنما قصاراه أن يدل على الجواز في العبادة، كرفضه - صلى الله عليه وسلم - التنشيف من الغسل بالمنديل، وجعل ينفض الماء بيده. واستعماله آنية من أنواع معينة في الوضوء، وكالضجعة بعد ركعتي الفجر، وأكله من كبد أضحيته يوم عيد الأضحى، وذهابه إلى عرفة من طريق ضب، ورجوعه من طريق المأزمين، وركوبه أثناء الطواف والسعي والوقوف، وكون الركوب في تلك المواضع على بعير. فكل ذلك دالّ على الإباحة فقط، ولا قدوة فيه.

وهذا يفسّر لنا قلّة عناية الصحابة رضي الله عنهم بنقل أفعاله التي من هذا النوع، حيث إنها على الإباحة، وهي الأصل. والله أعلم.

وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في المبيت بالمحصَّب بعد النفر: "المحصّب ليس من النسك، إنما هو منزل نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون أسمح لخروجه".

إلاّ أن احتمالاً يرد هنا، وهو أن يقال: إن احتمال عدم قصد التعبّد بهذا النوع يقتضي عدم اعتباره جزءاً من العبادة. ولكن الاستحباب فيه وارد في جهة أخرى هي موافقة صورة ما عمله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيثبت الاستحباب. وقد أشار إلى هذا ابن السبكي، قال في مسألة التحصيب: "قال أصحابنا: يستحبّ النزول به، ولو تركه لم يؤثّر في نسكه لأنه ليس من مناسك الحج" (١).

وقد تقدّم القول في هذا عند ذكر متابعات ابن عمر في القسم الأول، وبيّنا ما نعتمده في ذلك. والله ولي التوفيق.

الدرجة الرابعة: ما وضّح فيه أنه ليس مقصوداً به التعبّد، ولكن وقع لغرض جبليّ أو نحوه، فلا إشكال في أن ذلك يدل على الإباحة مطلقاً، أو إذا وجد


(١) القواعد ١١٥ أ.

<<  <  ج: ص:  >  >>